(التأصيل الفكري)
يجد المرء نفسه - مع كثرة تداخل الثقافات المتنوعة - أمام فوضى عارمة من الأفكار والممارسات الموجّهة والتي تتسق مع أفكار خارجية تارة، وتارة مع أفكار محلية ولكنّها مشوبة بأفكار دخيلة ومنكسرة لغلبة ثقافة منفصلة عنها.
وفي هذا المستوى من التفكير لابد من قراءات تأصيلية للأفكار، وتطور مصاحب لطرق التفكير، استعداداً لاستيعاب الجديد الذي طرأ حديثاً وتصور مفرداته، والأهم من ذلك حسن التعامل معه وتوجيهه لما يخدم المجتمع المسلم، ليكون معول بناء لا معول هدم.
والناظر إلى الانفتاح – اللامسبوق - في الأفكار، يشعر- وبكلِّ وضوح - بضرورةٍ ملحّة إلى صنع مشاريع فكرية نستطيع من خلالها فلترة الأفكار الدخيلة، ومعرفة معايبها ومثالبها، وبناء فكرٍ مناهض نابع من أصول متينة لا على ردود الأفعال، أو فكرة بينيّة ناشئة من انكسار داخلي يضع الداخل الأقوى ويطوع الأصول الشرعية تبعاً للفكرة الدخيلة ووسمها بالتنوير والانفتاح.
إن الانطلاق من الوحيين كأصول ثابتة وبنَفَس العزّة الغالبة بنى للأمة عزاً لم ولن ينكسر مع تقادم الأزمنة، وذلك ناشئ من إيماننا أن الأفكار البشرية مهما بلغت في الدرجة فهي عرضة للنقص يوما ما أو لردها والتبني لفكرة جديدة، أما الوحيين فهي أصول صفتها الكمال، ورسالة سماوية لا تعرف الخلل، والانطلاق من حيث الكمال يفضي للكمال بكل أشكاله، والانطلاق من حيث النقص يفضي للنقص في كل الأجزاء.
كم هي الحاجة إلى رسم المبادئ الإسلامية المبثوثة في الوحيين على أشكال قضايا للأمة تدرّس للتأصيل الفكري، من حيث تصور المعتقدات، ورصد التطبيقات المشار إليها كأمثلة في الوحي، وبناء التصورات الشرعية نحو القضايا المطروحة، واستنطاق المآلات الشرعية، حتى يكتمل التصور الذهني نحو تلك المبادئ.
فشريعة (الجهاد) مثلا مازالت الأفكار الدخيلة تنهش فيه -وهو سنام الإسلام- حتى بات التصور عنه غير نقي، والتطبيقات لشريعة الجهاد غير واضحة للجيل، وتوصف كل صورة أو تطبيق له بالنقص، ويرسم مآلاته بالتدمير والقتل بناء على ما يقيسه من تصورات نحوه، ليصل أنه نوع من الإرهاب أو ينكسر أمام مبادئه ليطوع فكرة الجهاد للدفع دون الطلب، إيماناً بفكرة أن الجهاد هو نتيجة للدموية وممارسة القتل لا غير ذلك.
هذه المنظومة الخاطئة من الأفكار نحو شريعة (الجهاد) مثلا سترسم في مبادئ الجيل هذا التصور الخاطئ، ويبنون عليها تصورات خاطئة يزيد اتساعها الانبهار بالأفكار الدخيلة عليه، فسرعان ما ينهدم لديه هذا المبدأ، ويحل مكانه المبادئ الدخيلة وتصبح معتقداته تابعة لها، وما أصعب تغير المبادئ حينها..!!
عندما نرسم المبدأ بكل وضوح أمام ناظر الجيل بجعل التصورات القرآنية كاملة وشاملة ، وكيف كانت التطبيقات الشرعية له، وماهي المآلات والمقاصد المنشودة منه، يظهر الحق أمام الجيل، ويقف مناهضاً عن هذا المبدأ، ولن يغيره مراوغات الأفكار مهما كانت مشوّشة نحو هذه القضية.
ولهذا فإنّ التأصيل الفكري المنطلق من النص الشرعي يصنع جيلاً لا يهزه ارتفاع صوت الباطل وهيمنته، وإنما يمضي قُدماً في الدفاع عن مبادئه ولو كلفه ذلك روحه التي بين جنبيه، فالحاجة ماسّة إلى خوض المهتمين لهذا الميدان، ومحاولة رسم المعالم فيه، وصناعة مشاريع يكسوها نفس العزة مقرونة بقراءات فكرية عميقة جذورها الوحيين، حتى ينطلق الجيل في كل الميادين وهو واضح التصورات، وسليم المعتقدات، يفخر بدينه ويبلّغه في كل مكان وهو عزيز به، يخوض البحر وهو في قارب النجاة، ولو هاجت الرياح به فالقلوب مطمئنة بإذن ربّها.
علي عسيري
-
علي عسيريمهتم بالبلاغة القرآنية
التعليقات
نحتاج اليوم الى استنباط الوحي لا إلى الاستئسار للتاريخ
فالمسلم ملزم بالوحي قرآنا وسنة أما التاريخ فهو للعبرة أقرب