لا أعرف كم لبثنا هنا في زوايا هذه المدينة , والغريب في الأمر لحد اللحظة لا أصدق أننا حقاً نجونا من الموت بخرافة لا تصدق والأغرب كيف لهذه المدينة الصغيرة إحتواء كل خيباتنا وآلامنا وأحزاننا في جغرافيتها الضيقة جداً .
لا يعقل أن تنطلي تلك الحكايات العجيبة على الأجيال القادمة , معاناتنا خلال السنوات الماضية التي تحتاج إلى ملايين المعاجم حتى يتقبلها العقل البشري , ومن المستحيل على ذاكرتنا احتواء كل التفاصيل والحيثيات والمفاصل التي قادتنا إلى هنا بحالة عُري تام من كل ماض جميل ولحظة هاربة تلهج بالسعادة .
اللاجئون أو النازحون أو حتى الهاربون هي الألقاب التي تطلق على معشر أبناء القرية الذين قهروا المستحيل وأفلتوا من بين براثن الموت , تاركين قريتهم بمافيها تواجه جل ألوان المجهول , لم يكن الأمر سهلاً أن نتكدس داخل الحافلات ونتخطى معابر الموت واحداً تلو آخر حتى وصلنا إلى هنا وليس من اليسير أيضاً أن نتقبل فكرة النوم على الأرصفة تاركين وراءنا بيوتنا بُنيت كل لبنة فيها من دموع وشقاء السنوات الخالية .
بعد ملايين محاولات التأقلم نجحنا في الإعتياد على ما نحن فيه من يأس .
أما اليوم بعد تحرير القرية سنجرر كل أحلامنا التي أصطحبناها معنا ونعود أدراجنا إلى مكان سيستقبلنا رغم أننا تركناه في أحلك الظروف .
كل الإبتسامات على وجوهنا مصطنعة حاولنا أن نرسمها بإتقان لكن لم ننجح فهناك هول من الحزن يظهر بادياً ينعق مثل غراب في مسامعنا يلومنا ويوقظ ضمائرنا التي كادت أن تموت .
نحن الراحلون عن هذه الأرض مودعين كل شبر فيها شاكرين كل ابتسامة ومساعدة قدمها لنا الأهالي , نتدحرج في الطريق المفضي إلى موقف الحافلات مثل لاشيء يبحث عن أن يكون شيئاً ذات يوم .
جحافلنا تخفف حمولتها عن هذه الأرض وأنفاسنا تخفف استهلاكها لهوائها بعد أن مكثنا مثل أكوام لحم تحاول أن تستعيد أقل قليل الحياة وتعيش بعيداً عن أخطار هذه الحرب .
على طرف الطريق أكوام من السيارات المحملة بأثاث بيوتنا عادت من أرضينا المحررة بعد أن بذل في سبيل تحريرها جنود لا نعرفهم عاشوا هناك وماتوا هناك وعادوا بأكفان رخيصة الثمن لكنها غالية على قلوبنا .
إلا أن جرذان المعارك يستهويها أن تسحب كل مايمكن سحبه حتى التراب المبلل بتلك الدماء الطاهرة .
سوق المسروقات أو كما نسميه " سوق التعفيش " كان يعج ببضائعنا التي ابتاعوها بثمن هروبنا البخس , في تلك الأسواق لا تجد شيء ولكنك تجد كل شيء , لا يتركون الغبار العالق على البضائع هناك بل يحضرونه حتى لا يبقى شيء من رائحتها يذكرنا بها .
رغم أن كل بضائعنا رخيصة الثمن إلا أنها كانت أغلى ما نملك , اليوم نراها أمام أعيننا تُباع وتُشترى ونحن نتأملها ونحاول أن نرى كل عيوبها لكنها لم تظهر اليوم كانت بيوتنا جميلة جداً بمافيها ولم نعرف قيمة جمالها إلا حين فقدناها .
تدافعت بين أكوام البشر حتى وصلت إلى " ماكينة الخياطة " نعم هي لي لم تغيرها الحرب أبداً صامدة رغم هزيمة , جاءت لتبشرني بأن بيتنا لم يتهدم , مسحت بيميني على صندوق الحماية المعدني كان بارداً جداً لكنه يعرف ملمس يدي كما أعرف كل مكامن لذته , رائحة خشبها هي نفسها لم تصل الرطوبة إليه , بقيت كما تركتها أنا من تغيرت فهي إرثي الوحيد من الأسلاف الذي لم أبدله رغم دخول الكهرباء إلى القرية وظهور ماكينات أحدث , فهي الشاهد الوحيد على فقر حالنا فكم من جراح القماش رتقت وأخفت النُدب التي طالته , على منضدتها نسجت بدلات الأعراس لجل شباب القرية كل الأفراح مرت من هنا وكل الأحزان أيضاً مرت من هنا , مرت تحت إبرتها التي تكسرت ملايين المرات مئات الأعياد التي رسمت فيها الإبتسامة على وجوه الأطفال حين ننجز لهم ثياب العيد وأخفت جميع دموعهم حين أعادت تصغير ثياب قديمة حتى تكون على مقاسهم , كم من الأسرار اقتسمتها معها وكم من العورات أخفت حين كان الفقر يقض مضاجعنا دون هوادة .
مسحت عنها غبار الحرب ومددت يدي إلى الدرج الذي لم يبرح من مكانه لا تزال بكرات الخيطان الملونة موجودة في أما كنها حتى زجاجة الزيت القابعة في صدر الدرج أخرجتها ورحت أمسح عن مفاصلها كل ويلات الحرب التي مضت , شعرت بها تبكي من هول اللقاء فكان الزيت يقطر منها ويبعث رائحة الحياة التي اشتقتها .
لا يعرف هؤلاء البشر الذين ينظرون إلي بتعجب عن كم السعادة التي احتلتني عندما رأيتها وكأنها عادت بعد أسر وبُعثت بعد موت .
فخيوطها عالقة في تفاصيل القرية كلها في اللباس وفي ستائر البيوت وحتى في أكفان موتانا , تركت في كل مكان بصمة لا تُمحى ولا تُنسى مهما طال الزمن .
دفعت عجلات الكرسي المتحرك مبتعداً عنها فهي لم تتغير أنا الذي تغيرت دفعت العجلات وتركت قلبي عالقاً بين رائحة الزيت والصدأ لعل هناك من ينسج تحت إبرتها من أكوام خيباتنا وأحزاننا قميص فرح وفرج .
-
أحمد خضر أبو إسماعيلالكاتب أحمد خضر أبو إسماعيل من مواليد 26.3.1993 سورية .سلمية كاتب في القصة القصيرة
التعليقات
حزين حقا و ياليت الحزن يزول بعد الرثاء .. حزين الى ما آلت اليه اوطاننا في الجانب الاخر ... صدقني لقد قرات هذه القصة و اعدتها مرات و مرات . ..حزينة جدا .. مثل جرح لم يلتئم بعد ..مثل نار لم تنطفئ بعد .. كان سردك للاحداث عميقا جدا ..و مميزا .. كنت تحاكي كل شيء حولك ...
دام سحر قلمك ..
من كل قلبي اتمنى الفرج القريب ..