قراءة في كتاب الحقيقة الغائبة لفرج فودة . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

قراءة في كتاب الحقيقة الغائبة لفرج فودة .

قراءة في كتاب

  نشر في 11 يونيو 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .


  إن الجرح لينكئ في هذا اليوم، و الذاكرة لتُخرجَنَّ لنا من عورة التاريخ من كل سنة في هذا اليوم حادث اغتيال المفكر المصري فرج فودة، على يد هَمجٍ خلعوا رِبقة الإنسانية و الحضارة عن أعناقهم، و تلبسوا بسواد التعصب الديني و والوا أكثر من اللزوم الحمية الحزبية، كيف لا و قد جَنَّنهم الإيمان و أعمى أبصارهم، و أحالهم إلى إرهابيين مُحلِّلين لدماء الأطهاء، فبعد مناظرة حامية الوطيس بين القَتيل و دَهاقنة جماعة المُكَفٌِرة من تيار الرجعية في مصر، لم يكن فيها الكلام دون حملٍ مُعين للسلاح من طرف القَتَلة، إلا كتبسّم الذئب للسخَّال، ما فتئ أن تحول بعد ذلك إلى هجوم دامي أودى بحياة الدكتور فرج فودة. و لا يغرينَّ الهمجيُّ قلة حيلة القَتِيل، فالأيام دول و الضَّهر كرَّار، فقد مرت الأيام كي يجد الإرهابي نفسه منثور الجثة في صحاري سيناء عقبة ضربة جوية للجيش المصري على تجمعات الحركة الإرهابية التي انتمى إليها بعد خروجه من السجن، و أناَّ له أن ينتمي لجماعة لا منطق لنشاطها إلا الغِيلة و القتل. فدونك أيها (القارئ) المكرم بعضا من بشاعاتهم، عوضا عنها دعنا نناقش الأنوار التي شعت من طهارة القتيل شخصيةً و فكراً.

  فكما أن وسط الشوك لابد أن تنبث زهرة ، و وسط اليأس لا بد أن يظهر الأمل ، كذلك وسط الجهل لا بد و أن تظهر شعلة الوعي و التَّعقُّل ، ذلك ما جسده ميلاد "فرج فودة" في مصر الإخوان المسلمين و السلفية و الأزهر، إذ ولد الرجل في مدينة الزرقا عام 1945 و حصل على دكتوراه شهادة اقتصاد زراعي من جامعة عين شمس ، ثم اغتيل في 8/6/1992 بسبب أفكاره التي كانت آنذاك شاذة عن نسق أفكار  ديماغوجية لا تقبل الإختلاف ، أثَّر فرج فودة بدون شك في فكر التنوير المصري و العربي المعاصر من خلال كتابات نقدية و مستفزة ، مثل "أن نكون أو لا نكون" - "حوار حول العلمانية" ، لكن يبقى أبرز كتبه هو ذلك الذي يحمل عنوان "الحقيقة الغائبة" ، الذي هلهل فيه البناء الآيديولوجيا لميليشيات "الإسلام السياسي" في مصر، و فتح فيه أعين قراء زمانه و زمن غيره على أبرز أخطاء المسلمين السياسية في التاريخ ، معتبرا هذه الأخطاء هي سبب تناحر المسلمين الأوائل و أبرزهم الصحابة الذين لم يستنكفوا على حمل السيف و قتل بعضهم بعضا ، بسبب صراع حول من يحكم ، فكيف كانت مقاربة فرج فودة للتاريخ الإسلامي و كيف استخرج منه عبرة للحاضر ؟ 

  في ذروة التخلف و في عِز التخبط الذي عرفه المسلمون بعد الحملة الكولونيالية الإستعمارية الأوربية، خرجوا من هاته الفترة الزمنية "كمن يخرج ثَمِلاً من الحانة" ، احتاروا بين أن يمشوا على هدي الدول الغربية و يعانقوا الحداثة و بذلك تخف وطئة الدين على الحكم و الحياة العامة، أم يعودوا إلى نظامهم السياسي المقدس و يُطَلِّقوا كل أشكال حكم زمانهم بل و يكفروا كل من دعى إلى الحكم بغير العقيدة الإسلامية، و كما هو عتاد أخلف القوم الموعد مع التاريخ لسوء الحظ و "اختار المسلمون أن يبقوا متخلفين فقط كي لا يتشبهوا بالكفار"، إذ غلب عنفوان الدين عن ضرورة الواقع فانحازوا إلى الإرتداد إلى سياسة أجدادهم الثيوقراطية الدينية.

  حيث زُين للعرب المسلمين منذ أكثر من 7 قرون حب التَّخلُّف حتى صار في معاشهمُ مُعتاداً، فلا تجد مضاجعهم مُقظَّةً من فيحاء آثاره، و لا من فداحة المراتب التي أبلغ التخلف إليها القومُ، كيف لا و هم لم يتركوا ذَيل الأمم في كل شيء إلا و استعصموا به، و اكتسبوا من ذلك شرف ذُّلِّ التربع على عرش القاع، إذ لم يتقدم القوم على أندادهمُ إلا في التبعية و العَمالة و الإِرهاب .

 لعل هذا التشبث إن لم يقال الإلتصاق بالقاع، ما دفع عدة مفكرين استبقوا الحاضر و حدسوا بانحصار أفقه و شدة تخلفه و سعة مشاكله ، فبادروا إلى تحذير المسلمين و ساستهم من عواقب السياسة التوتاليتارية لأي اتجاه ديني، إذ كان أبرز هؤلاء طرحا و أشجعهم مواجهة رجل وقع عليه اسم فرج فودة، ما خطى بعلاقته مع مجتمعه و رجال الدين فيه بخطوات متسارعة نحو الإختلاف حد التناقض، الذي ما فتئ أن بلغ مستوى التناحر و التصفية الجسدية، خصوصا بسبب ما عبر عنه الرجل في كتابه هذا  .

د.فرج فودة

  

   استهل فرج فودة كتاب "الحقيقة الغائبة" بتحدي الجماعات الإسلامية التي تدعوا إلى تطبيق الشريعة و تتغيى إقامة الخلافة الإسلامية، أن تتقدم ببرنامج سياسي يفصح عن طرحها علاج مشاكل المجتمع من التعليم إلى السكن مرورا بالصحة و تحقيق العدالة الإجتماعية و تقعيد الحقوق و المساواة كل ذلك من زاوية إسلامية ، غير أنهم لم يبادلوا التحدي بالإستجابة نظرا لكونهم أصحاب قول و شعارات لا أصحاب نظر و فعل ، إذ بدى لفرج أن نظرتهم تعتورها عدة فجواة نظرا لسوء قراءتهم للتاريخ و للواقع ، و ما هو أفرط فداحةً في طرحهم هو إنكارهم للحضارة الحديثة بشكل شامل. 

   هنا يظهر و كأن فرج فودة يساؤل القوم قائلا: أ و لم يرى الذين كفروا بالحضارة الحديثة أن إنكارها فكرا و ثقافة و سياسة لا يعيق إلا رأب الصدع الحضاري بين المسلمين و أهل الأرض، أ ولم يستوعب العرب بأن الذين آمنوا بالحداثة و الذي هادوا بها كالصينيين و اليابانيين و الترك و السكاندينافيين و من آمن بالتقدم و الإزدهار المدني و عمل صالحا لوطنه فلهم أجرهم عند شعوبهم و لا خوف عليهم من الفقر و لا هم يحزنون من التخلف و الهمجية. و لكن من أعرض عن الأخذ بالحداثة فله معيشة ضَنكًا و يبقى بين أمم الأرض أعمى عن محاسن التنوير و مكتسبات المدنية. إذ حتى و إن سئَل المسلم الزمان لم أحلتني أعمى متخلفا و قد كان أجدادي متحضرين، لقال له الزمن كذلك أتتك سنني في التحضر و نسيتها، و كذلك اليوم تُنسى .

  تعقيبا على هذا الموقع الرجعي، ينطلق د.فودة من أجل تفكيك المقولات الكبرى لدعاوي هذه الجماعات و توضيح مكامن شططها و زللها الفكري ثم الدعوي ، إذ تناول بدايات الدولة الإسلامية منذ فترة ما بعد وفاة "النبي محمد" التي شكلت فيه حادثة بيعة "أبو بكر" على أنه أول خليفة راشد زوبعة أخد و رد بين الصحابة . 

   فكما هو معلوم من التاريخ فإن عمر ابن الخطاب و أبو بكر سارا بعد وفاة النبي إلى سقيفة بني عامرة لمحاولة تباحث مع الأنصار (سكان المدينة خصوصا قبيلتي الأوس و الخزرج) بحيث عرض الأنصار "سعد ابن عبادة" كخليفة ، و هو ما لم يقبله عمر و رده أبو بكر بحديث قصه عنهم يقول فيه النبي أن "الخلافة في قريش" ، ما تقوقع معه الأنصار إلى الوراء و ما تشجع به عمر على اقتراح أبو بكر كخليفة ، فقبل به الأنصار و بعدهم بعض المسلمين فتمت البيعة للصديق . غير أن هذا ما لم يستسيغه بعض باقي الصحابة و في طليعتهم "علي ابن أبي طالب" ابن عم الرسول و زوج ابنته فاطمة الزهراء و والد أسباطه، إذ أنكر علي على عمر و أبو بكر عدم مشاورته و الإسراع في البيعة مستغلين انشغاله بتغسيل و دفن النبي ، ما دفعه إلى عدم مبايعة أبو بكر ستة أشهر بعد أن سلم له معظم المسلمين بالولاية .

  مرت الأيام حتى اقتربت منية أبي بكر ما عجل به إلى وصية المسلمين ببيعة عمر و ذلك ما كان ، إلى بعد أن انتقل هو كذلك للرفيق الأعلى ، ليأتي الدور على "عثمان ابن عفان" الذي خَلَّ بنهج حكم الشيخين (أبو بكر وعمر) ما جعل الأمة تثور عليه و تقتله شر قتلة بل و تدفنه في مقبرة لليهود بأسلوب أقل ما يقال عنه أنه مُذِلٌّ، و هو صحابي و ملقب "بذو النورين" نظرا لتزوجه ببنتين من صلب النبي، فضلا عن ذلك فهو مبشر بالجنة ، غير أن رفع العدل يعقبه رفع الطاعة. بعد قتلهم لعثمان بايع معظم المسلمين "علي ابن أبي طالب" و في فترة حكمه ظهرت مستتبعات فتنة قتل عثمان ، هنا ستخرج عائشة زوج النبي و طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام أحد أصحابه و بتشجيع من "معاوية ابن أبي سفيان" في حرب على علي ابن أبي طالب ، بذريعة تأخره في القصاص من قتلة عثمان ما أسقط 17000 ضحية ، إلا أن حمية الصحابة لم تهدأ على علي ليقيم أكثرهم حقارة "معاوية ابن هند ابن أبي سفيان" حربا أخرى دُعِيَت "بوقعة صفين" التي سقط فيها 70000 مسلم ، لتستمر آلة عزرائيل في حصد أرواح المسلمين في حرب أخرى و مرة أخرى ضد علي ، و هي "معركة النهروان" التي سعَّر وطيسها الخوارج ما تسبب في محق معظمهم إذ لم يبقى منهم فقط عشرة رهط حسب رواية المسعودي ، وبعد ذلك انتقم أحد الخوارج من هزيمتهم النكراء عبر "اغتيال ظالم" لعلي ابن أبي طالب ، تلك كانت قصة خلافة الراشدين الأربعة الكبار .

  هنا يفتح د.فرج فودة قوسا طويلا من الأسئلة من قبيل: لماذا لم يستطع الإسلام أن يمؤسس على الأقل مجرد "الحوار" بين معتنقين، لماذا رأيناهم لا يتحاورون إلا بالسيوف؟ ألم يمكن الصحابة عدول و ثقات، إذا كانوا كذلك لماذا قتلهم المسلمون بداعي الفساد السياسي؟ ألا يجعل اغتيال عمر و عثمان و علي -و قيل كذلك أن أبو بكر قُتل مسموما- الإقتناع بدنس السياسة ما يدفع إلى تمييزها عن الدين؟ لماذا لم يخمد غضب المسلمين عن عثمان رغم صحبته و ورعه ، لماذا لم يكف معاوية على باطله في  معاندة علي على ولاية مُصر (مفردة أَمصار) بلاد الشام؟ لماذا اختلفت أشكال البيعة فمرة بُويع أبو بكر "باتفاق" بين عمر و الأنصار ، و مرة بويع عمر "بوصية" ، و مرة بويع عثمان و علي "بانتخاب" ، و مرة بويع معاوية تحت "حد السيف

  يجيب د.فودة مشيرا إلى أن الإسلام لم يوضح طرق تداول السلطة ، كما أنه لم يحدد شكلا واضحا لكيفية ممارستها ، لم يحدد هذا الدين سبيل نزع البيعة من الخليفة لو جار و ظلم ، فضلا عن أنه لم يحدد شكل واضح المعالم للحكم ، لأن الإسلام بكل بساطة دين و ليس نهجا سياسيا ، جاء ليعلن من خلقنا و يوضح كيف نعرفه و نعبده، بعث محمد مبلغا لرسالة، ولم يبعث حاكما سياسيا و لا قيصرا امبراطورا ، ما جعله ظابطا لأمور الدين و ليس محددا لأمور الدنيا ، ذلك ما ترك أمور الدنيا و السياسة من شأن عامة الناس و ليس من شأن وظيفته ، و دليل ذلك أن محددات السياسة مبهمة في الإسلام ، ما جعل باب الإختلاف في المسائل الدينوية مفتوح على مصراعيه عند عامة المسلمين و خاصتهم مثل الصحابة، الذين تناحروا بسبب ذلك و استحل دم بعضهم بعضا . و بذلك يؤكد د.فودة أن الإسلام دين و نهج روحي و ليس نهجا سياسيا .

   ينتقل بعد ذلك المؤُلف إلى استعراض كوارث الخلافة أو بالأحرى الملك الأموي ، بحيث توعصت الأمور أكثر و تعقدت المشاكل زيادة ، إذ ثم قلب الخلافة إلى ملك عضوض مع الصحابي المُجرم "معاوية ابن أبي سفيان" الذي تسبب في قتل علي و ابنه الحسن ، ليأتي ولده من بعد "يزيد ابن معاوية" و ينحر الحسين حفيد الرسول الذي وصفه بسيد شباب أهل الجنة ، إذ آلت السلطة إلى قوم نكرة و هم الأمويون على رأسهم إمام البغات معاوية ابن هند . هنا د.فرج على سبيل المقارنة من أجل توضيح تدهور و سبب تدهور الوضع السياسي في بلاد المسلمين ، يُذَّكر بقصة عمر الذي نهض في وجهه أحدهم بالقول "و الله إن لم تستقم لنقونك بحد السيف" ، فيعقبه باستعراض قصة رجل قال نفس الشي لمعاوية إلى أن هذه المرة هدد الرجل تقويم معاوية بالخشب و ليس بالسيف ، يردف ذلك بقصة أخرى لأحد مجرمي ملوك بني أمية و هو "عبد الملك ابن مروان" الذي خطب في الرعية قائلا: "و الله لا يأمرني أحدكم بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا وضربت عنقه" ، و هنا يستجدي د.فرج نباهة القارئ ليلاحظ كيف تقبل عمر تجشم و شجاعة رجل عليه من أجل العدل كيف لا و هو الملقب "بالفاروق" ، غير أن الشجاعة انهارت في زمن معاوية الذي وُعد بأن يعاقب بالخشب لا بالحديد ، ثم يصل الوضع إلى قمة الإستبداد حينما يُعلن ابن مروان عن ذبح كل من ينصحه فقط بتقوى الله في الرعية ، بعد ذلك سيتم دَحر الأمويين من قِبل العباسيين الذين سيُقبرون آخر ملك أموي و هو المسمى "مروان ابن محمد " الملقب "بالحمار" ، و بذلك يكمل الكاتب مسير التاريخ من أجل استجلاء طبيعة السياسة مع العباسيين فهل كانت أحسن أو أوسخ و أجرم من سابقاتها ؟

  يستفتح د.فرج فودة الحديث عن العباسيين بملاحظة أن الفقه و أضرابه ستتبلور صوره الأولى في فترة نهاية الأمويين و بناء بني العباس لدولتهم ، كما يقول على سبيل الإزدراء د.فرج أن العباسيين لا يحتاجون لتقديم ما دام قد قدم مؤسس دولتهم نفسه بـ "أبو العباس السفاح"، الذي أقدم على أحقر الجرائم في التاريخ الإنساني و ليس الإسلامي فقط ، إذ قام بذبح نفر من معارضيه و وضعهم تحت سجاد كبير و شرب فوقهم الخمر و تناول العشاء بعد ذلك ثم انصرف للنوم و كأن شيءا لم يحدث ، سؤال جانبي نطرحه هنا قبل أن نسترسل: "أين يمكن أن نصنف جرائم داعش بالقياس إلى جرائم خلفاء المسلمين القدماء؟ أو ليس خُلفاء الماضي أكثر داعشية من دواعش الحاضر؟" نعود و نقول بأن السفاح أمر بنبش قبور ملوك بني أمية و حرق جثثهم و نثر رمادهم أين يقضي الناس حوائجهم ( أي أين يتغوطون و يتبولون) ، و هلم جرى من جرائم لم يتورع عن اقترافها كل ملوك بني العباس إلا واحد فقط ، فمنهم من ذُبح و منهم من قتل أخاه حتى يستفرد بالحكم ، منهم من كان يصلي في النهار 100 ركعة و في الليل يطئ الغلمان و يسهر مع الشطاحين و المطربين مثل "هارون الرشيد" ، ومنهم من لقب نفسه بأقبح الكنى من أجل ردع المعارضين من الرعية ، إذ وصف ابن عثمان والي الخليفة المنصور عن المدينة نفسه "بالأفعى ابن الأفعى" ، و عليه فبما أن الخلفاء يُكَنون بالسفاحين و الولاة بالأفاعي فكيف يمكن تصور سياسة العباسيين إلا على أنها "سم علقم" ، أما لو تقدمنا للعثمانيين فإن الجرح ليَنكئ أكثر و إن الظلم لا يُستعار زيادة .

  الخلاصة أن ما استدركه د.فرج فودة من هذا الجرد التاريخي يلخصه بقوله: "إن ما عرضناه من تفاصيل وما ناقشناه من وقائع لم يكن هو القصد، بل كان قصدنا أن نعرض منهجاً للتفكير ، يسمح باستخدام العقل في التحليل ، والنطق في استخلاص النتائج، و الشجاعة في عرض الحقيقة دون زيادة أو نقصان، و لا نحسب أننا في هذا مبتدعون بل نحن متبعون لما أملاه علينا إخلاصنا للعقيدة و ولاؤنا للوطن، وانتماؤنا للمستقبل" . إذ يؤكد مجموعة من النتائج و الخلاصات أهمها، أولاإن الخلافة التي نَنعتها بالإسلامية هي في حقيقتها خلافة عربية قرشية ، و أنها لم تحمل من الإسلام إلا الصفة ، وأن دعوى إحيائها من جديد تجسد إحياء فتن الراشدين و استبداد الأمويين و جرائم العباسيين و إرهاب بني العثمان.

 ثانيا: أن الإسلام دين لا دولة ، و القرآن كتاب دين لا دستور دولة ، فليس غريبا أن نجد الله تعالى يصف القرآن بعدة أوصاف كالتنزيل - الفرقان - الذكر الحكيم ، إلا أنه لا يصفه أبدا على أنه "دستور" ، فكيف لعبد أن يسبق ربه في تعيين المقدس و تحديد خواصه و صلاحياته ، و بذلك فإن للإسلام خطة روحية و ليس خطة سياسية.

  ثالثا: إن الفرق بين الإنسان والحيوان، أن الأول يتعلم من تجاربه ، و يختزنها مكوناً ما نعرفه باسم (الثقافة) ويبدو أن المنادين بعودة الخلافة يسيئون بنا الظن كثيراً، حين يَدعُوننا إلى أن نجرب من جديد ما جربناه من قبل ، و كأن تجربة ثلاثة عشر قرناً لا تشفع ، أو كأنه يفزعهم أن تسير على قدمين ، فيطالبونا بالسير على أربع ، فكيف تتحمل الأمة الجور و الإستبداد من أحد العامة و هي لم تتقبله من "عثمان ابن عفان" و قس على ذلك.

 رابعا: إن الثابت لدينا من قراءتنا للتاريخ الإسلامي أننا نعيش مجتمعاً أرقى بكل المقاييس، وعلى رأسها مقاييس الأخلاق، وهو مجتمع أكثر تقدماً وإنسانية فيما يختص بالعلاقة بين الحاكم والرعية، وأننا مدينون في ذلك كله للثقافة الإنسانية التي لا يرفضها جوهر الدين، ولحقوق الإنسان التي لا تتناقض مع حقوق الإسلام ، و بذلك فإن الإنسلاخ عن ثقافة عصرنا و الإرتداد لثقافة ماضينا يُعد ضربا من الإنتحار . 

   خامسا : إن التاريخ يكرر نفسه وكأنه لا جديد مع جماعات الإسلام السياسي ، غير أننا لا نستوعب دروسه ، و نركز في دراستنا له على أضعف جوانبه و هو جانب الفكر الديني متناسين السياسة و الحكم و الحقوق ، ذلك ما يدفع د.فرج فودة إلى ترجمة حوادث التاريخ بمصطلحات الحاضر و إلى الاستفادة من دروسه بأسلوب العصر حتى لا نسقط اليوم فيما تعثرنا فيه بالأمس، إذ أن جماعات اليوم لا تختلف عن جماعات الأمس فما قام به نوع المسلمين هؤلاء قبل قرون لن يُثنِيهم ثانٍ عن معاودة الكرة ، و لنا في داعش خير مثال و موعضة ، ألم يُحيي هؤلاء الخلافة ألم يحكموا بالشريعة ألم يأتوا بمثل ما أتى به بنو أمية و بنو العباس و العثمانيين ؟ و للقارئ فرصة إعادة التبصر . 

  سادس: إن تنامي الجماعات الإسلامية وتيارات التطرف السياسي الديني ، يعكس تأثير التربية و التعليم و الإعلام في مجتمعاتنا بطريقة تنظر للتاريخ غير نظرة الحكيم ، حيث التفكير دائماً خاضع للتوجيه، والمنهج دائماً أحادي التوجه والاتجاه ، و الوجه الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها، إذ إن ما سبق عرضه في هذا الكتاب -يقول د.فودة- لا يزيد عن محاولة لعرض الحقيقة المتكاملة ، الأمر الذي يدعو إلى التفكير ، و هو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعلامياً ، و الذي لا يعرض من الحقيقة إلا الجانب المُضيء ، ولا يعلن من الآراء إلا رأياً واحداً ، و لا يدفع المواطنين إلا إلى اتجاه واحد، وهو من خلال ذلك كله يهيء الوجدان لقبول التطرف، ويغلق الأذهان أمام منطق الحوار . 

  سابعا :يؤكد د.فودة أن الإسلام على مفترق طرق ، وطريق منه أن نخوض جميعاً في حمامات الدم إذ لم نكن قد خضنا فيه منذ مدة ، نتيجة للجهل وضيق الأفق وقبل ذلك كله نتيجة لانعدام الاجتهاد المستنير، وطريق آخر أن يلتقي العصر والإسلام وذلك هين يسير، وسبيله الوحيد هو الاجتهاد المستنير، والقياس الشجاع والأفق المُتنور، يجزم د.فودة أن الطريق الثاني هو الوحيد ، وهو الذي سيسود رحمة من الله بعباده وحفظاً منه لعقيدته ، غير أن أخشى ما أخشاه أن يطول الانتظار، وأن يحجم الأخيار، وأن يجبن القادرون، وأن ينجح المزايدون في دفع العجلة إلى الوراء ولو إلى حين، لأن المجتمع كله سوف يدفع ثمن ذلك، وسوف يكون الثمن غالياً.

   ممكن أن يستنتج القارئ من الكتاب ثامنا و تاسعا و (...) فالكتاب يزعزع قناعات تخشبت في عقولنا و تغلغلت في وجداننا إلى حد أن اقتلاعها يقترن بألم لا طاقة للمؤمن المتعصب على مداواته.

  لا تفوتني الفرصة بأن أطرح بعض الأسئلة على ضوء أفكار هذا الكتاب و هي الآتية: إذا كان الصحابة أَجَلُّ الناس ورعا و ثقوى ، و أكثرهم فهما للدين و استيعابا لمراميه ، لم يتمكنوا من حل مشاكل زمانهم بالخلافة و تطبيق الشريعة و الإستمساك بالسنة، فكيف لنا نحن الذين لا يمكن أن يتجرأ أحد منا على الإدعاء بأنه يفهم الدين أكثر من عمر و عثمان و علي و معاوية ، كما لا شك في أن مشاكل عصرنا ازدادت و عناصر حياتنا تعقدت زيادة، فكيف لنا بحل مشاكلنا في الحاضر (المُعقد)، بسياسة دين فشل سدنة الإيمان به في حل مشاكلهم بالإعتماد عليه في الماضي (الأقل تعقيدا)؟ فمعلوم أن الدين ثابت و أن الزمن متغير، فكيف يستقيم الثابت مع المتغير؟  إذ نلاحظ دائما بأن الزمن و الواقع يهرب عن أي آيديولوجة دينية متجمدة ، ما يهوي بالشعوب المحكومة بها إلى الإستبداد و التخلف ، ثم كيف للإسلام لو كان دولة و سياسة أن لم يستطع ترسيخ قيم الديموقراطية و العدل طول تاريخ المسلمين إلى اليوم ، لا زال هذا القوم تحكمه أنظمة سندها الشرعي هو الدين ، و مع ذلك لم تترك جريمة مالية و حقوقية و ثقافية في حق الشعب إلا و سارعت إلى ارتكابها ، لماذا لم نستطع كشعوب مسلمة منذ أكثر من 14 قرن إلى اليوم ، أن نأسس صرحا سياسيا ديموقراطيا بمعايير إسلامية يُرسخ العدل و المساواة بيننا جميعا؟ أسئلة و أخرى تطرح نفسها بإلحال على هذا القوم إما أن يواجهوها بالواقعية المطلوبة دون إقحام متعسف للقناعاتهم المقدسة للأفراد، و إما فَـهُم و الهمجية إخوان إلى يوم يبعثون.

   لا بد أن نصرح في النهاية، بأن العلمانية التي حاول فرج فودة التنظير لضرورة تنزيلها عربيا ليست الحل الشامل لمشاكلنا بل "هي جزء من الحل" فقط ، إذ يمكن بشكل كبير جدا أن تكون دافعة للإنطلاق الحضاري المنشود، بدل الآيديولوجية الدينية المسيطرة منذ أن ظهر دين القوم.

  أخيرا أقول أن من كان يراهن على انمحاء أثر الرجل فقد خسأ سعيه و حبطت أعماله، فإن فرج فودة رحل بجسده، إلا أن أفكاره باقية و تتمدد، حية لم و لن تموت و إن كره المغضوب عليهم من طرف العصر .






  • 1

   نشر في 11 يونيو 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا