الإجراء الأخير (ق.ق) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الإجراء الأخير (ق.ق)

قصة قصيرة

  نشر في 13 يوليوز 2019 .

تذكر عادل عمره فجأة، كان في ربيعه التاسع والعشرين، عندما كان لا يزال واقفاً في الطابور أمام شباك حكومي يجلس فيه موظف التأشيرة، كانت التأشيرة بمثابة حلم كل الواقفين في الطابور، كانوا يتراوحون بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، وكانت قلة من المعمرين (أصحاب الأسنان) كما يقولون عنهم عندما يريدون أن يسخروا منهم (وقد وقعت أسنانهم)، وكانت الهمهمات في الطابور ترتفع بين كل شخصين متجاورين، بينما وقف أحد كبار السن يعطي النصائح لبعض الشباب (الحديث) المقبل على السفر، وتأكيده على النواهي أكثر من غيرها، فالفتنة هناك كبيرة، ونحن شعب مؤمن بطبعه، يخاف من ظله .. كان كل واحدٍ له شغله الشاغل لكن عادل وقف صامتاً لا يتكلم ولا يتحرك، صارم النظرة كأنه اعتاد المجئ إلى هذا المكان، يعرف الإجراءات، ولا يحتاج أن يسأل أحداً: "ورقة كذا .. من أين يمكن أن أستصدرها؟!" ، كان يبدو عليه الوثوق والثبات كأنه سافر كثيراً من قبل فهو يعرف حواري برلين ويعيش في قرية سان ليون في الريف الفرنسي وينتقل بين نيويورك ولندن .. كانت تبدو عليه القطعية وشعور الثقة، لم يتجرأ أحدٌ معهما لمحاولة (فتح) الكلام معه ،أو أن يتطفل فضولي لا يخلو منه مكان ،يسأله:"إلى أين؟!"

عادل لم يكن له عهدٌ بالسفر من قبل، وتلك هي المرة الأولي التي يقف فيها في هذا الطابور، أو غيره، كان في الحقيقة يتحاشى الأوراق الحكومية في حياته ويبتعد عن أبنية المصالح العامة وطوابيرها العنقودية، كان لا يحب الانتظار، يظن أنه ذو شخصية جزعة، ينفذ صبره سريعاً، لكنه مع ذلك لا يزال يقف في طابور التأشيرة بكل صبرٍ وينتظر بلا موعد!

مرت أكثر من ثلاث ساعات، ولم يبدُ على الواقفين الضجر من طول الانتظار أكثر مما بدا عليهم القلق. فهذا الشباك هو شباك الأحلام .. الشباك الأخير قبل ركوب الطائرة، كان بمثابة الخطوة الأخير قبل تحقق الحلم .. لكن أخيراً ها هو الطابور ينتهي إلى عادل، بحيث أن مركزه من حيث الأدوار هو الثاني .. "لم يبقى بيني وبينكِ من عقبةٍ إلا ذاك الشخص الذي يقفُ أمامي .. هيا!" صرخ في نفسه متحمساً.

كان الجميع منهمكٌ في ثرثرتهم، ومع الاقتراب من شباك التأشيرة، ترجَّع في آذان عادل توسلات أمه بعدم السفر والابتعاد في غياهب الغربة، قالت له: "جاء اليوم الذي تهجرُ فيه حضني وتبتعد!" .. أثرت فيه هذه الجملة حتى كادت أن تستدعي عبرَته، وبدا في خياله صورة وجه أمه الشفيق المتوسل في كل طية من طيات انفعاله وهي تقول: "البيت اعتاد عليك .. في كل ركنٍ لك ذكرى .. أتذكر عندما كنت تخبئ نفسك خلف الباب إذا غضب عليك أبوك؟ وعندما كنت تزحف تحت (الكنبة)؟ لا تزال بعض رسوماتك و(شخابيطك) على حائط غرفتك!" .. كان يؤلمه أن يفكر في أمه وقد عزم الرحيل، كانت هي الشيء الوحيد الذي قد يستدعي بقاءه إذا قرر البقاء .. فكان يصر عليها أنه لن يطيل سفره وأنه في إعارة مؤقتة لسنة أو سنتين ثم سيعود مرة أخرى، لكنها كانت لا تصدقه مع ذلك.

"لماذا لا تتمسك بنا بلادنا مثل أمهاتنا؟" ذهل عادل بهذا السؤال عن همهمات الطابور، "أليست هي بمنزل الأم أيضاً! بل لقد علمونا هذا تلقيناً في المدارس، فطالما نُعتت الأوطان بوصف الأم، وأن مواطنيها أبناؤها، وفي الأناشيد القومية تتمجد علياء الأوطان في الآفاق .. كنا نردد النشيد بأعلى صوت، أتذكر هذا جيداً، حتى أن عيناي غرقت في الدموع ذات مرة عندما انسجم العلم مع إنشادنا برفرفةٍ خافقة كأنه يلوح إلينا يحيينا، حتى في الانجليزية! فإنهم يسمون الوطن (Mother land) .. لكن مع ذلك لم يجد أكثرنا حناناً في بلاده، ولم تكن له تلك الأم، ذات الكفِ السميح الذي يمسح عنهم عرق متاعبها، أو الحضن الدافئ تشكر به مساعيهم بضمهم إليه.

لم ينتبه عادل إلى خلو المكان أمامه إلا عندما هزه شخصٌ خلفه مشيراً إليه للتقدم؛ ليجد -فجأةً- أن الطريق أمامه مفتوحاً، والشباك خالٍ، "إنه دوري!!" تقدَّم عادل وقد بدأ قلبه يخفق بشدة وتسارع كأنه دق طبول مشهد ملحمي في فيلم لم تتحدد ملامح نهايته بعد.

قدم عادل أوراقه المملوءة بالأختام والتوقيعات وارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة لم تخطأها نظرة الموظف الجالس خالف قضبان حديدية، وبدا الموظف لوهلة قد أثارته تلك الابتسامة .. "أين قسيمة الزواج؟!!" قالها بقرفٍ .. "لستُ متزوجاً!" رد عادل وقد تسرب إليه القلق.

"اممم!" كأنه يتوعده .. "الأوراق كلها مكتملة، والأختام صحيحة، ويجدر بي أختم لك تأشيرتك، لكن ثمةَ إجراءٍ عليك استيفاؤه .. الإجراء الأخير" وأشار بإصبعه إلى غرفة مجاورة ..
"الإجراء الأخير! أليس هذا آخر شباك لاستصدار التأشيرة؟!" 
"نعم، لكن عليك الآن أن تدخل للمقابلة الشخصية كآخر إجراء قبل السفر"
تملك عادل الذهول وأراد أن يسأل (لماذا وكيف) فلم يسمع عن هذا الإجراء من قبل. "لكن كونه (الإجراء الأخير) فلا بأس" قال في نفسه.
أشار الموظف إليه بالدخول بعدما ضغط على زرارٍ في الحائط .. "ستدخل بعدما تنير اللمبة أعلى الباب".

وقف عادل أمام الباب، تقافزت في عقله تساؤلات عن ما قد ينتظره في الداخل، والهدف من ذلك .. "أهو تحقيق شخصية أم قياس قدرات! هل أثار عدم زواجي مشكلة؟! تستدعي اختباري نفسياً أو أنهها قد تكون جلسة وعظ وإرشاد بالحذر في بلاد الكفار! أسيزوجوني قبل السفر مثلاً حفاظاً عليَّ من إغراءات الحرية، وحرارات التحرر. 
من ناحية الأوراق، فإني على ما يرام، شهد بذلك الموظف اللعين منذ قليل .. لكن ماذا حصل؟! .. الشروط الثلاثة كلها مستوفاه:
1) أن يكون له إخوة، فقوانين الدولة لا تسمح للابن الوحيد بالسفر، لأنه يمثل (الجيل الثاني) في الأسرة كلها، وسفره يعني أن تبقى الأسرة بلا تمثيل على خرائط ديموجرافيا وإحصاءات السكان، وهو ما يمثل خللاً في توازن تحرص عليه الدولة بين (الجيل الأول) الآباء في كل أسرة، و(الجيل الثاني) الأبناء في كل أسرة.
وهذا الشرط لم يكن موجوداً ضمن شروط السفر إلا بعد ظهور هذا التصنيف الغريب عندما طالب أحد نواب البرلمان اعتبار شباب البلاد نواة الحياة فيها، وأنهم بمثابة (ثروة قومية) و (مورد) لا ينضب.
لكن يبدو أن مطالبته (العادلة) لم تجد من يفهمها على الوجه الصحيح، حيث اُقترِح التصويت على قانون جديد اشتهر في الإعلام باسم (قانون حق الوطن) ويرتكز هذا القانون على مبدأ غريب لم يسبق إليه سابق، يتحدث عن: (ملكية الأفراد) أي أنه قد تم ضم الشباب ضمن ممتلكات الدولة العامة! ومنذ ذلك الحين صار الشباب يدخلون في حسابات الموازنات العامة وتقديرات البنك المركزي، والذي استحدث خزانةً جديداً تحت مسمى (مخزون الشباب) وصار لها حساباً محاسبياً بنفس الاسم في دفاتر الدولة، فكان طبيعياً أن تجد عموداً جديداً لحساب توزيعات (الشباب) في الموازنة العامة جنباً إلى عمود الحسابات النقدية.
2) أن يكون له رصيد بنكي بمبلغ مائة ألف (شخلول) وهي العملة في بلادهم، وكان هدف الدولة من وراء هذا الشرط، المحافظة على صورة الدولة أمام الدول الأخرى، فلا يُسمح لفقير بالسفر لأن ذلك من شأنه أن "يؤثر على صورة البلاد سلباً ويعطي انطباعاً سيئاً ومخالفاً للواقع هنا!" (هكذا جاء في البيان الرسمي) 
لقد كان دائماً للفقراء وظائف حكومية.
3) أن يكون قد تخرج في الجامعة بتقدير عالٍ (فوق درجة جيد)، وقد كانت فلسفة هذا الشرط تدور حول أن التقديرات العالية لا تجد -في غالب الظروف- عملاً مناسباً، ووجودهم في البلاد يرفع نسبة البطالة كل عام، كانت الشكوى الأكثر ذيوعاً بين هؤلاء (قلة العوائد). أضف إلى ذلك أن الدولة لم تكن تستقبل في وظائفها الشاغرة أياً منهم اعتماداً على تقليد شعبي قديم ورثه الناس عن أجدادهم مبعثه نشر شعور القناعة (والرضا بالمقسوم) تصبيراً من عند أنفسهم على آثام الدهر فيهم ومشاق الحياة، لكن اعتمدته الحكومة للتعامل به في أروقته حيث يقول: (قليلٌ مقبول خير من كثير بلا قبول).

هذه هي الشروط ..فما الذي يبقى؟! الشروط مستوفاه ... 

هل يكون من الشروط أن لا أكون عائل أمي! 
لا أظن أن أمي لها دخل في الأمر .. هل فعلاً قد يكون صحيحاً؟! .. أن تكون أمي كلمتهم لكي لا يعطوني التأشيرة! .. آخر ما أتخيله هو أن أجدها جالسة في الداخل تنتظرني!"

أضاءت اللمبة باللون الأصفر .. تذكر على الفور إشارات الطريق الصفراء قبل (المطبات).

عندما فتح عادل الباب كانت الغرفة أشبه بغرف الاستجواب الأرضية التي عادةً ما تظهر في الأفلام البوليسية، كانت صغيرة، متساوية الجوانب مثل مكعب مغلق، الحوائط صامتة مصمتة؛ لا نوافذ لا لوحات لا ديكورات، إلا صورة على كل حائط فوقها لمبة (سهراية) صغيرة تبرز ملامح الصور والتي بدت لوهلة أنها صورة واحدة مكررة وليس صور مختلفة. "من هذا يا تُرى؟!" لكن يبدو أنه شخص مهم جداً لدرجة أن يوضع في مكان لم يوضع فيه أي شيء آخر غيره. كان هناك كرسيان متقابلان حول طاولة مستطيلة صغيرة في الوسط في مواجهة الباب، لم يكن يظهر ما وراءها من شدة الظلام إذ كانت الإضاءة تعتمد على لمبة واحدة متجهة ناحية الباب، متدلية من السقف، كانت تكفي لإضاءة الطاولة وحواليها... "تفضل!" خرج الصوت من الظلام من خلف الطاولة.

تقدم عادل وسحب الكرسي وجلس في نفس الوقت الذي قفز فيه الأدرنالين فوق سقف المعدل الطبيعي.
= "أهلاً بك عادل .. هل لازلت تريد أن تسافر؟" قالها الصوت جامداً بدون أي مشاعر.
- "هل يزعجك هذا؟" .. في خضوع قالها
= "لماذا لم تتزوج للآن؟"
- "هل ذلك يمنع سفري؟!" 
= "لعلك تجيب!" بنبرةٍ حادة
- "لا أحب الزواج!" رد مثل طفلٍ عنيد 
= "هذا يشجع بقاءك" 
- "أنا أصر على السفر!"
= "عدم زواجك يعني أنك عضو خامل"
- "كيف؟؟"
= "عضو خامل في المجتمع، لا يتفاعل مع الواقع (بحرارة)، لأن مسؤولياته مخففة، ليس لديه زوجة أو أولاد،لا يحمل مسؤولية الطعام والشراب، والعمل براتب جيد، نحن نفضل هذا النوع هنا"
- "ماذا تقصد بكلمة (بحرارة)؟!"
= "يمكنك أن تقول (من تلقاء نفسه) بلفظ آخر"
- "ولماذا هذه الثقة؟"
= "لأن خصائص هذا النوع لا تدخل فيها محفزات خارجة عن نفسه، فكل شغله الشاغل هو نفسه، ولا يتعدى الحاجات الشخصية والتي يمكن أن يتحول عن بعضها إلى غيرها حسب ما تيسر، لكن في بعض النوعيات الأخرى -وهي معقدة في الحقيقة- يكون التفاعل حامٍ، والانفجار على شفير دائماً"
- "نوعيات أخرى! هل نحن في معمل كيمياء؟"
= "وهل تظننا في ملاهي! هذه الدنيا دار امتحان واختبار .. ألا تقرأ القرآن؟! ..  والطبيعيات هي علوم تجريبية بامتياز، لكن الكيمياء تحديداً وعلى الرغم من كونها علم طبيعي، إلا أن فيها أيضاً  جوانب من العلوم الإنسانية في نفس الوقت"
- " كيف!"
= "لم يكن تصنيف ديمتري مندلييف تصنيفاً للعناصر الكيميائية فحسب .. الجدول الدوري .. تعرفه؟ .. فقد تضمنت طريقته تفكيراً إنسانياً أساسياً عندما قال: (
إذا تم ترتيب العناصر وفقاً لأوزانها الذرية، ستظهر دورية (أو تصنيفاً) واضحة في خصائصها، لكل تصنيف خصائصه، محدد بحالة توازن)"
- "وماذا يعني هذا؟"
= "يعني أن تصنيف الناس طبيعي، وأن كلمة (Discremination) الغربية ليست من الطبيعي أن توضع في سياقات النفي والشجب والإدانة .. هذا التصنيف وتلك التفرقة ضروريان لكي نتمكن من أن يتقبل بعضنا الآخر"
- "أ.. أناااا .. لا أفهم شيئاً .. ولا أوافقك الرأي على ما لا أفهمه .. ما الذي حدا بالحوار لهذا؟"
= "لقد سألتني عن معمل الكيمياء! نعم نحن نصنف الناس خامل وفلز ولافلز وأشباه فلزات ومشع"
- "لذلك فأنا خامل .. فهمت .. لم أفهم البقية؟"
= " الخامل هو مثلك من غير المتزوجين، والفلزات هم الرجال المتزوجون، واللافلزات هنَّ النساء المتزوجات، وهذان التصنيفان بخلاف الأول يسببان أغلب المتاعب لنا، يكفي أننا لا نستطيع التقدم بسببهم، ليس نحن فقط بل العالم كله، فالدول جميعها صارت تعيش في حذر تضخم هذين الصنفين ، مما يحدو بنا إلى حيث الزيادة السكانية والقصور الغذائي .. ألم تسمع عن توماس مالتوس؟!"
- " مالتوس؟!"
= "أما أشباه الفزات فهم من يعيشون في الخارج سواء كانوا فلزات أو لافلزات، وهؤلاء متاعبهم محدودة إلا أن التيقظ لهم واجب، أما المشع فهم أولئك الذين في كل حريق يكونون شرره الأول، وهؤلاء قد جمعناهم في مكانٍ واحدٍ تجنباً لتكرر الحرائق" قالها  وكأن الصوت قد ابتسم ساخراً وهو يقولها 
- تراجع عادل على مقعده وقال بصوت مرتجف: "أين؟"
="هل لازلت تريد أن تسافر؟" 

انتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهي



   نشر في 13 يوليوز 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا