عندما تسير في أروقة المدينة القديمة ينتابك شعور خاص بالحميمية والاندماج الدافئ مع أجواء الألفة والمودة التي تلامس ابن المدينة وزوارها سواء بسواء ، في تلك الحالة الإنسانية لا يعرف أحد الغربة ، فما إن تنزل أو تقيم قرب سكان أقدم منك و أكثر التحاما بالمكان حتى تصبح جزء من المجموعة تتعارف وتتآلف بلا قيود أو شروط . تسير قرب الأوابد القديمة فيتغلغل إحساس رقيق بأنها تهمس في أذنك تحدثك عمن زارها ومن غادرها تروي حكايات وقصص لا تنتهي. تفوح من مساجدها وكنائسها روائح جميلة أنيسة محببة تختلط بهوائها العليل حاملة عطر الليمون والياسمين بتوليفة تتحدى أغلى العطور الباريسية، تتنقل بين الأسواق ومحال الحرفيين المهرة فلا تمل من المتابعة والمشاهدة ، بسلاسة ويسر تتابع خطواتك وكأن نسمة أو غيمة تحملك وتدغدغ فؤادك، أمام الباب الغربي لمسجدها الجامع الكبير تأتلف حشود متنافرة يبدو ذلك جليا من ملابسهم ولغاتهم ولهجاتهم ، تحلّق فوق رؤوس الجميع طيور الجامع مشعرة الكل بالطمأنينة والأمان ، ينطلق صوت الآذان دون استئذان متناغما مع حركة السوق وصرير الكلام وبازار التجار ، ما إن تدخل صحن المسجد حتى تشعر بحضن يضمك وكريم يتلهف للقائك ، يبهرك البناء ويذهلك التاريخ ويذهب عقلك جمال الفن والإبداع ، تحمل حذاءك تحت ابطك وتلج باب حرم الجامع مستقبلا المحراب ، عندما تطأ قدمك سجاد الحرم الوثير ينتعش داخل فؤادك حنين وخشوع ورضا يندر أن تناله في مكان آخر. أنت هنا بين الأهل والأحبة حتى وإن كنت لا تعرف أحدا.
خلف تلك الحجارة الضخمة المرصوفة بعناية عجيبة تاريخ عتيق يغزل ذكريات أفراد وشخصيات نساء ورجال عظماء ومن عامة الناس لكل منهم حتوتته الخاصة وأحلامه وآماله وآلامه، كل زاوية وكل زقاق كتب الزمان على جدرانه أخبار من رحلوا ومن بانو ، روايات لا تنتهي تبدأ مع أول صبح أشرق بين جنبات الغرف المغلقة واستمر مع غيابات الشمس دون انقطاع أو توقف، يتداخل اليوم بالأمس والقادم بالماضي حتى لكأنك تعجز عن التفريق بينهما أو الفصل بين ما كان وما سيكون. أبواب حديدية وأخرى خشبية تفصل رمزيا بين تاريخ مر وحاضر مستمر ، وما بين الداخل والخارج علاقات لا يفصح عنها كلام ولا ترويها أحاديث الصباح والمساء.ما بين داخل السور وخارجه عائلات تنقلّت يدافعها طموح بلا حدود ورغبة عارمة بولوج عالم الحداثة والغنى، تلاحق مستجدات الحياة العصرية مخلفة وراءها ليس فقط عادات وتقاليد وأعراف بل وأخلاق تربو عليها ونشؤوا تحت ظلالها ، كثيرون تركوا المدينة القديمة محطمين بلا هوادة قيودها وأغلالها ، رغبة عارمة بالارتقاء المادي والثراء الظاهري أغرت الشباب والشابات ، خارج أسوار كتبت تفاصيل أيامها بأقلام المحبة والصدق تبدأ حياة جديدة كل الجدة بما تحتويه من محاسن ومساوئ، من خير وشر من نزاع لا ينتهي بين ضمائر حية وأخرى ماتت عندما تخطت عتبة البيت العتيق.
مدينة فريدة بين المدن على أرصفتها يتزاحم العشاق ويتكاثر الطفيليون والانتهازيون ، تتحطم فوق حجارة طرقاتها أحلام وتنمو أخرى ، صراع أزلي تحكيه مشاهد يومها لا يحسم فها أمر ولا تموت قضية ولا تنتهي حكاية.
هنا بدأت الرواية
-
Ehsan Talebاحسان طالب كاتب وباحث في الدراسات الإسلامية من دمشق ، سوريا. مواليد 1956 ولد في عائلة مسلمة تلقى تعليما متعدد التوجهات والده هو الشيخ بهجت طالب ، كان واحدا من أئمة المساجد الشهيرة في دمشق في مرحلة المراهقة المبكرة ، تعلم ا ...