هل حكمنا العسكر!؟
قراءة نقدية في كتاب "الجمهورية المثلى" لزكي الأرسوزي
نشر في 22 أكتوبر 2023 .
من غير المعقول أن يحكم أحد المحظوظين بعد وصوله إلى السلطة، ويستفرد بالحكم ثم يبني دولته بما يشتهي، فوق كرامات البشر .
كيف لوعيهم الريفي، ولمعلوماتهم العسكريّة أن تثبّت حكمهم لسنوات طويلة!؟
كيف نفسّر وجود مؤلفات تقونن الاستبداد وتصفه وتحدد أولوياته؟.
كيف نفسّر تطابق أنماط سلوكهم السياسي، وخاصّة الداخلي منها مع هذه المؤلفات ؟.
بعض هذه المؤلفات كان عالميّاً والتأثر به ليس بالمفاجئ تماماً. لكن ماذا عن المفكرين المحليين الذين كتبوا وطبعوا ومن ثم نشروا مؤلفاتهم، والتي تتناول الساسة والدولة بشكل أساسي؟
ليس ميكافللي في كتابه (الأمير )، والذي أهداه لأمير فلورنسا (إمارة في إيطاليا) في القرن الرابع عشر، وليس صدفةً تطابق سلوك طغاة الغرب مع ما كتب ميكافللي في كتابه هذا، وخاصة ثلاثي الاستبداد العربي الحديث : حافظ الأسد، صدام حسين، معمر القذافي. كما أنه ليس الاتحاد السوفياتي والشيوعية . ليس لينين وستالين . بل ماكتبه زكي الأرسوزي .معرضُ حديثنا في هذا المقال.
كاتب ومفكر سوري (١٨٩٩-١٩٦٨) . حاصل على إجازة في الفلسفة من جامعه ستوربون الفرنسيّة . له مؤلفات عدّة في القوميّة العربية والسياسة والتربية .
يرى الأرسوزي أن الدولة "رحمة" للإنسان المفطور على الاجتماع، ويعود بأصل لفظة الإنسان إلى الأنس ، وهو الائتناس بالجماعة . ويتصوّر الأرسوزي أن الحق في الجمهورية المثلى هو أساس الدولة، وغياب الحق كانتزاع العظم من اللحم ! فكما يؤلم الثاني جسديّاً ، يؤلم غياب الحق نفسيّاً. ويرى الأرسوزي أن الحق هو سلطة أبويّة ، سلطة الأب الذي يصبو للعدل بين أبنائه. وبالتالي فإن شهوة السلطة هي امتدادٌ وتعاظمٌ لشعور الأبوّة.
قد نرى في هذا تفسيراً لسلوك الأسد في تلقيب نفسه بالأب القائد!.
وتفسيراً لاستخدام صدام حسين مصطلح الماجدات لتسمية نساء العراق . وقد لا يغيبُ عن أنظارنا مشهد اعتقال القذافي خارجاً من قناة مياه في وادي في منتصف الصحراء متسائلا : ما بكم يا أبنائي!؟.
أما العدالةُ فتعني عند الأرسوزي المساواة!. ويُرجعُ الأرسوزي أصل لفظة العدالة إلى الفعل "عدَّ" أي أحصى. وإذا غضضنا البصر عن تأويله اللغوي هذا، فهنا تذكيرٌ بالشيوعيّة المنقوصة بعلم النفس ، فلا يسعى الإنسان للمساواة ، بل يسعى للتميِّز والاحتراز.
نفهمُ من العدالةِ بأنها لا تقضي بجعل الناس سواسية، بل تعني تمكين المواطنين من بلوغ أقصى ما تمكنهم منه طاقاتهم وإمكاناتهم وقابلياتهم دون الضرر بغيرهم من المواطنين.
يتحدّث الأرسوزي في كتابه الجمهوريّة المثلى عن سلطان الدولة.
فالسلطان عند الأرسوزي هو الحجّة، وحجّة السلطان تلبية حاجات الناس فإخضاع الناس يتم بتلبية حاجاتها, ويبدو لنا أن طغاة المنطقة قد فهموا من هذه الحاجات الحاجات الأساسيّة التي حددها أبراهام ماسلو(1943-1954) بالطعام والشراب والجنس أما عن اللحاجات الاجتماعيّة في الأمن والانتماء فكانت لها شروطٌ وضعها الاستبداد، وكل من سلك طريقاً مختلفاً في تلبيتها كان خائناً وعميلاً وانفصالياً.
وصدرت بعض الأحكام التي تقونن هذه الحاجات وتضع لها الشروط ويمكن بسهولة اكتشافها من بنود قانون الطوارئ السوري مثلا . يسمح لك بتلبية حاجاتك الاجتماعية بما لايتعارض مع وهن عزيمة الأمّة أوإضعاف الشعور القومي وغيرها.
كان طغاة العرب والثلاثي الاستبدادي الشهير حافظ وصدام ومعمر يجتهدون في حل الأزمات الغذائية كأزمة حليب الأطفال في سوريا في الثمانينات والتي أمر حافظ الأسد بحلّها خلال أربع وعشرين ساعة وكان له ذلك.
النفط مقابل الغذاء : البرنامج الشهير الذي قايض نفط العراق بغذاء شعبه برعاية الأمم المتحدة عام ١٩٥٥ .
والتفاخر بما يوزّع كمؤن مجانية للشعب الليبي ورخص تكاليف المعيشة في ليبيا القذافي.
يرى الأرسوزي أن الملكيّة الخاصة هي وظيفة اجتماعيّة تتولّى الدولة تنظيمها بما لا يضر بمصلحة الوطن وبما لا يعيق الأمّة عن تأدية رسالتها.
ولا أظُن أن سلوك التأميم عند جمال عبد الناصر وحافظ الأسد إلّا تنظيما أرسوزيّا للملكية الخاصة. كما لا أرى قانون الطوارئ عند البعث إلا تطبيقاً لمصونيّة الأمة هذه عند الأرسوزي .
يشترِط الأرسوزي لإشراك العمّال في الشأن العام مستوى رفاهية خاصّة ، بما لا يتعارض مع الصحّة والكرامة.
ويضيف : أن العبيد والرعاع هم من اكتفوا بمتاع الدنيا هدفاً لهم. بغض النظر عن مصدر هذه النِّعم، حتى وإن كان مصدرها أعداء الأمّة. لا أدري لماذا تسترجع ذاكرتي خطابات حافظ الأسد عن بترول الخليج الذي يترفّع عنه هو، فقضيته أكبر وأسمى وهي القضية الفلسطينية وأرض العرب.
ليست معلوماتهم عن الرمّانة التشيكيّة, ولا المدى المجدي لكلاشنكوف, ولا أصول المدفعيّة, ولا لوجستيّة الحروب.
فمن حافظَ على حكم استبدادي لسنوات طويلة وحاكَ المكائدَ ونظم المؤامرات وصفّى معارضيه سجناً ونفياً وقتلاً, ومن أفلت ونجا في توريث ابنه حكمه بعد وفاته، لابد وأنه استند للنظريّة.
إنه العسكري المثقف والقارئ المتأثر بما قرأ.
كان الأرسوزي قد درّس حافظ الأسد في المرحلة الثانويّة، وكانت تربطهما علاقة قويّة، حيثُ أشاد حافظُ الأسد بزكي الأرسوزي واصفاً إياه بأهم مواطن سوري في عهده !. وأنَّ حزب البعث في شقّه العراقي يعترف بمشيل العفلق مؤسساً، بينما يميلُ بشقّه السوري لزكي الأرسوزي مؤسساً أو أحدَ أهم المؤسسين .
-
تمّام صلاح الشوفيخرّيج كلية التربية جامعة دمشق / كاتب في التربية والمجتمع .