وَ ذَا النُّونِ ، إِذْ نَعْتَصِرُ مِنْ مُزْنِ سِيرَتِهِ وَابِلَ العِبَر.. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وَ ذَا النُّونِ ، إِذْ نَعْتَصِرُ مِنْ مُزْنِ سِيرَتِهِ وَابِلَ العِبَر..

  نشر في 09 نونبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .


                  بسم الله الرحمن الرحيم

(كتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) سورة ص الآية 29



أما يونس فكان نبيّا موحّدا واعظا حاملا للرّسالة في شغاف فؤاده طيّب السّريرة و العلانية..

دعا إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و أقام صرح دعوته على أسس اللين و التبيان و المحاججة بدامغ البراهين و ناصع الآيات .. بيد أنّ رسالته الصادقة قوبلت كسالفاتها و تالياتها بالتّكذيب و الصّدّ و الإعراض و التشبّث بالكفران.. لم يقنط ، صابر و جاهد و رابط على ثغر العقيدة السمحاء متوسّلا شتّى الطرق لهداية رهطه.. جميعها تهشّمت على جلمد الرفض القطعي و تفتّتت تحت مرداة العقول المتكلّسة الموبوءة بالعند.

صمد و تجلّد ، سعى و اجتهد ، ثم تبرّأ و هرب في لحظة إنهاك و انهيار و يأس من توبة قوم نينوى.. 

﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾


قصد النّبيّ الكريم شاطئ بحر يافا الكنعانيّة أنّى ألفى سفينة ترفع مراسيها في انتواء للإبحار إلى ما وراء جبل طارق، فركبها..

﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ ..

 فُلْكٌ مشحون بالعباد و العتاد و بأثقال الذّنب اللامقصود.. ذنب العبد الذي أشفق من حمل الرسالة المرميّة على كاهله فخلع رداء النبوّة و فرّ من عبء ما كلّفه به ربّه.. ربّه الحليم الّذي لم يعجّل بالعقوبة و أمهله حتى يستبين سبل الهدى..


هناك بذيّا الفلك ، غرّه البحر الرهو فاستكان .. و إذا بالله يرسل نُذُره آية على حتميّة انقهار الإرادة البشريّة الكسيحة أمام قدر الإله المجيد الفعّال لما يريد 

﴿ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ ﴾


﴿ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾

و ماجت الصرخات و جاشت اللجاج و اضطربت الأفئدة..

بحر عاصف ، موج هادر ، قلوب مهلوعة ، و رجال مذعورون يلقون بأثقال المتاع في اليمّ و بسهام القرعة و بنبيّ الله! :

﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ 

قرعة تعاد مثنى و ثلاث و تؤول في كل مرّة لذات النّتيجة : يونس من المدحضين 

﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾


و ألقي بيونس بثبج المحيط الهادر ، في قعر بحر لجيّ ذي ظلمات ، تحت سماء راغية ساخطة ، و بين أمواج في سموق الرواسي الشامخات.. لحظات عسر و مشقة و ارتياع ، و سياط ابتلاء تجلد بعنف ظهر العبد المجزوع.. ثم ماذا؟ شموس العناية الإلهية تبزغ بعد ديجور قد سجى و تباشير الغوث تلوح و نسائم الرحمة السماوية تهبّ لتنعش الرّوح المختنقة بدخان البلوى..

﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾


و هذا نبيّ الله محفوظ في جوف الحوت المارد المأمور بالابتلاع دون الطّحن و التّمزيق.. جوف دامس موحش بجدران ملساء و مخاطات لزجة و أصداء تسابيح خاشعة..

حينها يشرع يونس في ولوج جنان الخلوة الجليلة.. كل ضوضاء الكون تخفت من حوله ، يتعرّى من وعثاء الدنيا و همومها و ينصهر في نور الذّات الإلهية في لحظات تطهّر و صفاء و مناجاة و تسبيح و أوب إلى المالك الذي ساخ حبّه في أفلاذ كبده و الحشا..

ثم في غلس الظّلمات الثّلاث تنفجر أنوار الهدى الوضّاحة حين

﴿ نَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ، 

فيقرن النّداء بالاستجابة الفوريّة و التنجية من الغمّ..

﴿ اسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾


نجّاه!.. لم يلبث في بطنه إلى يوم يبعثون ، لم يستحل رفاتا في جوف الحوت، لم ينسحق بين فكّيه ، و لم يتحلّل بأحماض بطنه.. إنما أنجده الله بأن ألقى إليه حبل الغياث و أرسى سفينة رزاياه على خليج الانفراج 

﴿ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴾


﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾

سقم و عراء و وحدة و مصير مجهول.. لكن يد الله لازالت تسند العبد الضّعيف و تأبى أن تذره وحيدا في مواجهة الكبد الكؤود ، 

﴿ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ ﴾

و احتواه و حماه من لفح الصيهد بأن مدّ عليه فيء الأماليج 

﴿ أَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴾


هذا هو الله ، فالق الحب و النوى و خالق الكون بما حوى ، حين يسبل أستار عونه على كل ذي محنة من عباده ، حتى المتمرّغين منهم في وحل العصيان..

و هذا هو غيث فرجه الغامر ، إذ يتنزل بعد هجير الشدائد بردا و سلاما على القلوب المعمورة بالتوحيد المغمورة بالذكر، فيخمد نيران المشقّة و ينبت في رمادها أقاحي الحمد و الرّضوان..

كمثل النداء الإلهي الجميل :

﴿ أَلَّا تحْزَني﴾

الذي ارتفع مخاطبا الصبية المبتلاة بوبال الكرب و آلام المخاض و الجوع و الوحدة و الخوف من قوم ستأتيهم تحمل شيئا فريّا..

نداء أردف بعطاء فيّاض و جود ثجّاج و إرفاد بلا حدود و إقرار عين و نصر على الظالمين. 

﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ ﴾


فالحمد لله على نعمة الإيمان و كفى بها نفلا إلاهيّا نفني العمر حمدا لله عليها و لا نوفيه حقّه، و نشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله..

  • 1

  • أسماء بالحاج عثمان
    قارئة نهمة و كاتبة ناشئة تجيد الغوص في أعماق الأشياء و ترك السطح الراكد لمن تشفي فضولهم أنصاف الحقائق
   نشر في 09 نونبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا