هذه خاطرة يسيرة كتبتها من سنة تقريبًا، ولم أقم بنشرها؛ والآن أفكر بذلك لعلها تكون رسالة نافعة في ظلِّ استمرار الأوضاع لتقرع قلب من كان له قلب، ولعلها حجة لي لا علي:
مذ أيام معدودة، كنت أتسوق بأحد المحلات، مرتدية الكمامة، وكذا القفازات، ومحاولة الالتزام بالاحترازات؛ وليس هذا لونٌ من ألوان الجبن كما يظن بعض الجُهَّال؛ فأنا أفعل ذلك لمن حولي ونفسي، مفتخرة بثقافتي وحُبّي للمسلمين وذاتي، والأهم لأني أعلم بأن عند عودتي إلى المنزل ثمّةَ أناس أحبُّهم لا أريد أن يمسّهم مرض ولا نَصَب...
أعجبتني مجموعة من المنتجات ولكنها نفَدَت؛ فقال الموظف: "انظري الشاشة واختاري منتجًا لأطلبه لكِ"، وأثناء اختياري إذ بموظفةٍ قصيرةُ شعر، حادّة النظَر، مُتبهذلةِ الثياب، تخرج من وسط هذا المحل الراقي وتأتي عنده مقاطعةً إيانا لتقلّب الصفحة على الشاشة من خلال لوحة المفاتيح بكل ثقة!
ليس العجيب في قلّ الذوق كامنٌ؛ بل في قربها من الموظف؛ فالمسافة تستطيع تقديرها بالسانتي بالعين المُجرّدة، وإذ بالموظف يتفاعل معها وكأن لسان حاله يقول: أنتِ صديقتي؛ وما بيننا الصداقة فلا إثم ولا عيب.
خرجت من المحل وقد نسيت (الإبلاغ) عنها بدافع (عدم الالتزام بالتباعد الاجتماعي) على الرقم المُخصص لهذه المخالفة، لا أدري لعل الوقاحة قد صفعت وجهي فجعلتني في دوّامة الصدمة والتفكُّر أهيم.
ثم أخذت أتفكّر بالإجراءات تفكّرًا:
التباعد الاجتماعي.
أولم يكن بعض نساءنا يلتصقن برجالنا في الممرات الضيّقة، وذلك الرجل يمرُّ وهو لا يضع في باله أدنى تنبُّه لمرور امرأة من جانبه، وكتِفُه يعانق كتف تلك، وتلك، وتلك... ولا حياء.
لا أملك سوى أن أقول الآن: رحم الله من كانت تمشي على استحياء!
لبس الكمامة.
أولم يكن هنالك ثمّة فئة يُلقون بألفاظهم التي مُلئت خُبثًا، صادرةً من قلوب قد أُشربتْ سمًّا، مستهزئين بهؤلاءِ النساء اللواتي استجبن لأمر الله ورسولهﷺ بستر وجوههن.
ثم هم الآن مجبورين على لبس الكمامات! ومن خلعها أو حتى تساهل في طريقة لبسها استحق الغرامة.
الخروج للضرورة.
أولم يكن بعضنا يُكثر الخروج لمختلف أماكن الترفيه، وتذهب أيامه ترقُّبًا لفتح ذاك المحل وذاك، وشهوة (الترفيه) لديه لا تُشبع، وله قلبٌ للمواعِظ لا يَخشع! فلعله بعد ما عاين الفارق، استحقر تِلكُم التوافه.
أولم يكن بعضنا يخرج للتسوّق من أجل تبادل الغرام مع من يدّعي حُبّهم، والآن بات التسوّق مكان قضاء حاجة، فلك الذهاب إليه بقائمة دقيقةٍ مسمّيَة لتستلم البضاعة المُغلّفة -كالعطور- من غير حقٍّ في معرفة ماهيتها كما السابق اضطرارًا، ثمّ تخرج من السوق فورًا.
وغير ذلك من التأمُّلاتِ التي لا يَسَع خاطرتي بسطها؛ لئلا تخرج من طورها لتكون بحثًا. وها أنا أجاهد نفسي في الالتزام بقلّة حروفها، وعفويتها تتطلب -بنظري- كتابتي لها في دقائق.
ولهذا أختم بأن أقول: ألم يأنِ لنا أن نستجيب لأوامر الله -جلّ في علاه-؟
فإنه ما نزل داء إلا ومعه دواء؛ فلمَ لا نترك (الاعتماد الكامل) على الأسباب العادية، ونلجأ إلى الأسباب الإلهية؟ قال تعالى:﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّه﴾؛ فكل شيء تخافه عادةً يتطلب هروبك منه، إلا الرب فإنك تهرب وتفِرُّ إليه! وكذا نُنْزِل الأسباب العاديّة منزلتها.
*يا رب يأتِ اليوم الذي أطلُّ فيه على هذه الخاطرة قائلةً: الحمد لله الذي جلا عنا هذا البلاء بكرمه وفضله.
-
لمىلا يهم الكم بقدر ما يهم الكيف، فلا تتفاخر بكثرة سيلان حبر قلمك فهو ربما هدر، وربما حتى شاهد عليك، فاهتم (بماذا) تكتب لا (كم) تكتب.