من الجمل التي تتصدَّر المجالس الدعوية وتتكرَّر فيها أنَّ (مساحة الممكن كبيرة وواسعة) وسرعان ما ينقسم المجلس عند طرحها إلى طرفي نقيضٍ بين مؤيد لهذه الجملة وبين مستشكِلٍ عليها، وقبل أن نناقش صحة العبارة من ضعفها والمسببات لِوُرودِها نريد أن نوضَّح المقصود بالمصطلح حتى نستطيع تميز حدوده ومعرفة ما ليس منه، فعبارة (مساحة الممكن) داخل الساحة الدعوية -خصوصاً- يُقصَد بها مجموع المشاريع والأنشطة والبرامج والمبادرات والأساليب الدعوية التي مازال بالإمكان العمل عليها وتفعيلها بالشكل المطلوب غير ما قد تعرَّض منها للتوقف أو الضَّعف لأي سبب كان.
ومن التعريف يظهر لنا جليَّاً أنّ مساحة الممكن أكبر بكثير مما يُعمل عليه، فحينما أردنا أن نحصر مساحة الممكن جعلنا حقولاً كثيرة للتعريف بها، والحقل الواحد يندرج تحته من الأفكار والممارسات الدعوية ما يصعب علينا حصره، فالأنشطة والبرامج على سبيل المثال لو وضعنا لها جلسة عصف للأفكار لطال بنا الكلام في صورها وأشكالها، وسنبدأ في تفريعات وحقول أخرى ليتسنَّى لنا حصر الأفكار تحت هذا المسمى العريض (الأنشطة والبرامج) الذي يمثِّل جزءاً من تعريف مساحة الممكن، وعلى ذلك فَقِس مع بقيَّة مكونات التَّعريف لِنُدهَش بمساحة كبيرة وواسعة من الأعمال الدعوية التي لا نبالغ إن قلنا أنَّنا لم نلمسها أصلاً.
ومن هنا يأتي السؤال الذي نريد أن نطرحه لماذا تضِيق على البعض مساحة الممكن مع أنَّ النَّاظر لأوَّل وهْلَة للساحة الدعوية يُدرك المساحات الواسعة لها؟ وسأُبيِّن سبب ذلك من خلال النقاط التالية:
1- المشروع الدعوي كتلة واحدة: يخطئ البعض في النظر إلى الميدان الدعوي فيجعله كتلة واحدة لا تتجزأ، ويتعامل مع مجموع برامجه وأنشطته وممارساته على أنَّها مجموعة لا تنفكّ عن بعضها البتة، ومن هنا ينشأ الخلل في المفهوم..!! فإمَّا الميدان بهذه الضخامة من البرامج والمبادرات والممارسات وإلا فلا، فيَختزل بهذا المفهوم كثيراً من المساحة الدعوية التي كان يُمكن شغلها والعمل عليها، ونَضرب مثالاً لتوضيح هذه الفكرة، فمن يتعامل مع الحلقات القرآنية أنَّها ميدان دعوي لا يتجزأ، فقد اختزل حزمة كبيرة من البرامج والممارسات الدعوية - التي لو نظرنا إليها منفكَّة عن الحلقات القرآنية - لوجدنا أنَّه بوسعنا أن نجعلها ميداناً دعوياً مستقلًّا، فالحلقات القرآنية فيها تعليم القرآن، وترسيخ القيم، والتنشئة التربوية، وتعليم المعارف الدينية، والتدريب على المهارات، فهذه الحقول بمجموعها مكوِّنة للحلقات القرآنية، وفي الحقيقة أنَّ كلَّ حقل من هذه الحقول يمكن التعامل معه كميدانٍ دعويٍّ مستقل كتعاملنا مع الحلقات القرآنية، وتفكيكه إلى برامج ومبادرات متنوعة، وقُلْ ذلك في الميادين الدعويَّة الأخرى، فبنظرة الكتلة الدعوية الواحدة حرمنا أنفسنا من مساحة كبيرة من الممكن كان يمكن الاستفادة منها.
2- تنزيل الجزء منزلة الكل: وهو أن يختزل الدعوة كلَّها في ميدان دعوي واحد، فإن توقَّف هذا الميدان فإنَّ التدفق الدعوي لديه ينضب، فيجعل هذا الميدان هو الدعوة، ويُنزِله منزلة الدعوة كاملة، كمن تخصص في دعوة الجاليات إلى دين الله، فما إن يتوقف هذا الميدان الدعوي تحت أي ظرف، بدأ يضعف دوره الدعوي، والمتتبع لهذه الظاهرة يتلمَّس بعض مسبباتها، كالذي فتح عينيه على ميدان دعوي معين منذ نعومة أظفاره فلا يرى ميداناً إلا هو، أو يُحكِّم عاطفته في اختيار الميولات الدعوية دون النظر إلى الاستعداد الفطري والخبرات والإمكانات، وغيرها من الأسباب التي من شأنها أن تُحدث القصور في مفهوم المساحة الممكنة.
3- اعتياد الوسائل: عند النظر إلى الميادين الدعوية بنظرة إحصائية للوسائل المفعَّلة نجد رتابة واضحة في الوسائل، واعتياداً - غير مبرر- في تفعيل بعضها ونسيان الأخرى، وهذا النسيان مع تقادم العهد يُورث نُفرة نفسية من قبول ما اندثر من الوسائل فضلاً عن تفعيلها، وحاصل الإشكال في هذه النقطة أنَّ الاعتياد على بعض الوسائل يُعطي تصوُّراً للمتعاقبين على هذا الميدان أنَّ سرَّ نجاحه متعلِّق بذات الوسائل المعمول بها، فتنصرف الهمَّة إليها من دون الأخرى، وخاصة إذا كان انصراف الهمَّة لبعض الوسائل مرحَّباً به من الإدارة الدعوية، ومن هنا يحصل تضييق المساحة الممكنة بتصوُّر عدم فاعلية الوسائل الخاملة، والبقاء على المعتاد عليها مع كونها أحياناً غير مناسبة للمرحلة، ومن الحلول المهمَّة لتجاوز مثل هذه الإشكالات وضع الخطط الاستراتيجية الدعوية التي تكفُل التنوع للوسائل، والزيادة في الأفكار بما يتناسب مع المرحلة ومستجدَّاتها.
4- تكدُّس الطاقات: من الإشكالات المسببة تضييق ساحة الممكن تكدُّس الطاقات في ميادين معينة مما يجعل الكثافة الدعوية في ميادين دون أخرى، فبدلاً من استغلال الطاقات القيادية والمتميزة في فتح آفاق دعوية جديدة، وتسليط النظر إلى مساحات الممكن في الدعوة، أخذت بعض الميادين تتحفَّظ على المتميزين دون عملٍ ذي بال يليق بمهاراتهم ومميزاتهم، وإنَّما يقوم بدور أقلَّ من المناسب لمواهبه وقدراته، فأثرَّ ذلك سلباً بانحسار المساحة الدعوية لدى الجيل الدعوي الجديد، فأصبحت عيناه تُبصر أصحاب الخبرة في مكان معين، ومتكتِّلين في ميادين معينة، فمن الطبيعي أن يميل إلى هذه الميادين طلباً للعمل فيها، مع التوجس من المساحة الممكنة التي قد تكون مناسبة لشخصيته ومواهبه، وهنا أُنبِّه أنَّ وجود الطاقات في مكان مستقرٍّ دعوياً ليس خطأ بالعموم، وإنَّما الإشكال في تواجده في ذات الميدان وهو لا يؤدي إلا أدوار إشرافية بسيطة أو مهمة دعوية عادية، لا تليق بما رزق الله من مواهب وإمكانات، فالمطلوب من أمثاله أضعاف ما يعمله الآن، ولو تمَّ توجيهه لبناء عملٍ جديد في ميدان جديد لأتى بإذن الله بالأعاجيب، وهنا يكمن خطورة تكدُّس الطاقات في مكان واحد، ومدى تأثيره على انحسار الممكن في الدعوة.
5- ضعف القراءة المسحية: ونقصد بذلك أنَّ لدينا ضَعفاً في حصر الميادين والمسارات والبرامج التي يُمكن العمل عليها، لتفعيلها في الميادين الدعوية أو تفريغ الطاقات أو أصحاب المواهب لتقديم المبادرات والبرامج المختصة بهذا الميدان، وهذا ظاهر الدلالة في علاقته بضعف التصور لمساحة الممكن، فعدم استيعاب المساحات الشاغرة للعمل الدعوي من شأنه أن يؤدي إلى قصور في قراءة الميدان واحتياجاته بطريقة صحيحة، ويمكن علاج هذه المشكلة بإحدى أمرين:
الأمر الأول: جلب المستشارين المتخصصين في الدعوة لدراسة الميدان دراسة مسحية إحصائية، والخلوص إلى نتائج محددة يمكن العمل على غرارها وبناء الخطة الدعوية الاستراتيجية.
الأمر الثاني: العمل على اجتماعات دورية مع شرائح مختلفة من الميدان الدعوي وسماع أفكار من يواجهون العقبات بأنفسهم، فهم أعلم بالاحتياج الدعوي لقربهم من الميدان والمستفيدين.
ومما يحسن الختام به أن مساحة الممكن أكبر من أن تقِل، وما مرَّ على المسلمين فترة عصيبة إلا وكان هناك مساحة دعوية ممكنة، ولكننا بحاجة إلى الصدق مع الله ثمَّ مع أنفسنا وسبر أغوار الميدان، والبحث عن الميادين الجديدة المناسبة لظروف المرحلة، وتفْتح أفاقاً جديدة للتواصل مع المجتمع، فالمطلوب هو استفراغ الوسع، وأن يقدِّم الإنسان ما يُحسن، وأكثر نفعاً.
-
علي عسيريمهتم بالبلاغة القرآنية