الإسلام السياسي في القرن العشرين هو المسؤول الأول عن تذويب الإسلام في أيديولوجيات الحداثة من خلال التركيز على النقاط المشتركة مثل وعود الرخاء الاقتصادي وأحلام اليوتوبيا الاجتماعية. نتيجة لذلك، صار هناك تصوّر شائع مفاده أن عصر صدر الإسلام عصر مشابه للثورة البلشفية، وأكاد أجزم أن صورة النبي والخلفاء الأوائل عند العامة لا تختلف كثيرا عن لينين وتروتسكي. جزء كبير من سخط العامة على الأنظمة الحالية معتمد بشكل جوهري على التصورات الوهمية التي زرعها الإسلاميّون عن زمن الخلافة، التي تم تصويرها على أنها نموذج مشابه لدول الرفاه الإسكندنافية. النموذج الأمثل بالنسبة للسواد الأعظم من المسلمين المعاصرين هو نسخة متأسلمة من الدول الإسكندنافية حيث ينعم الجميع بالرخاء الاقتصادي، ويقدر كل واحد على الحفاظ على نمط الحياة الاستهلاكي الحديث شريطة الحفاظ على الحجاب ورفع صوت الأذان وتحريم جزء مما حرم الله. أتعجب ممن لا يزال يتحدث عن الإسلام السياسي بوصفه قوة مناهضة للحداثة أو نحو ذلك. في يومنا هذا، ستجد أن كثيرا من القضايا التي تشغل الإسلاميين سواء في البلدان العربية أو في أوروبا متعلقة بقضايا مضحكة مثل منع لاعبة مسلمة من بطولة معينة بسبب الحجاب، أو نسبة مشاركة المسلمين في حكومة يفترض أنها كافرة ومعادية للمسلمين، وما إلى ذلك. صحيح أن الحضارة الإسلامية لا زالت قائمة في العالم ككيان يحتفظ بقدر ما من الخصوصية الثقافية، لكن هذا لا ينفي حقيقة أن الإسلام تم تذويبه مفاهيميا في الحداثة، وأن السواد الأعظم من المسلمين أقرب روحا وفكرا إلى نموذج الحلم الأمريكي من أي نموذج تقليدي. لهذا السبب، عندما أسمع كلمات مثل "تطرف" أو "رجعية" أو ما إلى ذلك، ردي الطبيعي يكون: يعم روح اتلهي، وأن قياس اثار كل موضوعية ، لا يكون على اساس ما تستشعره الذات البشرية ، فالاستشعار بحد ذاته يتطلب ادراكا بالواقع ، وهذا الواقع لا يُدرك الا عبر ادراك الاثار هذه التي شكلته ، وكذلك تتطلب مهارات ذاتانية في الربط بين الموضوعيات ، وهذه القدرة المنطقية ليست مطلقة عند الانسان

ولربما ، ان افضل طريقة لاستدراك اثار اي موضوعية ، او ربط الاثر بذات مكنون الموضوعية ، هو التتبع التاريخي لتسلسل :- ان الارادة البشرية ، الارادة التي تستدرك ذاتها ومنطلقاتها ، وتستدرك حقيقة محدوياتها السردية ، وتستدرك واقعها وما تحتاج الى توظيفه للانتفاع منه ، هي التي تتمحور حولها مسالة تطوير الاثار والموضوعيات الجزئية ، فهذه هي الارادة القائمة بذاتها فعليا - انا. تطورها ونشوئها ، مع الاخذ بالاعتبار ان حتى هذا المفهوم المنهجي ، فعلياً هو ميكانيكي ، وليست ديناميكيا ، مما يعني ان الذات البشرية دورها وظيفيا يكون محدود في بعض الاجرائيات المحدودية التي تقضي بمكننة الذات (تحويلها الى الة ميكانيكية في منطلق التفاعل مع هذه الموضوعية) من ذات مكنون مفهوم انها يجب ان تدخل المعطيات الصحيحة ، وتجعل صيرورتها الميكانيكية صحيحة ، لكي تصل الى الاستدراك الصحيح ، لكن ان قدرة الذات البشرية لا تتجلى الا ما اذا استطاعت ان تكتسب الادوات المنطقية التي تؤهلها لبناء التصورات بشكل ديناميكي 

وهذا الشيء المكتسب عبر صيرورة تاريخية تطورية للقدرات العقلية البشرية ، لا يمكن استشعاره على اكمل وجهه الا في حالة واحدة

‎وهي تعرض الذات الى الاوضاع الاستثنائية التي تتطلب التصرف السيادي من منطلق عدمية التقيد باي منهجية وسردية ميكانيكية او ديناميكية ، بل يكون التصرف وفق استقراء الذات لتكون الحدث ، او الاستنباط اللحظي والاني الذي يقوم على التفاعل الغير متقيد بل المُجرد من المرجعية

‎(ان اللاهوت في ذاته ، مدرك لكل شيء ، لكن استدراك العقل البشري للاشياء ، حتى لو تشكلت من منطلق الاله الذي لا تستدرك ، فان لها سياقها المادوي ، ان كانت على هيئة تسلسل احداث بشري يمكن وضعه في سياق صيرورته التاريخية ، والحصول على استدراك به من منطلق معرفة صيرورته التاريخية هذه ، وان هنالك نوعاً من التصور الخاطئ الذي تم تصديره عن اللاهوتيات بشكل عام ، على انها تقيد قدرة الانسان على الاستدراك ، مع انها فعليا تفعل الشيء الاخر تماما ، خاصة المفهوم الاسلامي حول هذه الموضوعية ، فهو يقدم منهجية حيوية للانسان تتداخل في تنظيم كل سلوكياته واسلوبياته ، وان هذا الشيء لا يتحقق الا عبر الاستدراك بذات مكنون الواقع الذي يتم اسقاط الحكم عليه. فان اي حكم شرعي ، يستوجب في ذاته وجود بعض الاحداث الواقعية او بعض الافعال البشرية التي تجعل الذات تكتسب شرعية او سبباً يدفعها لتطبيق الحكم ، وان هذا بحد ذاته ، الدافع الاكبر المنهجي لاستدراك الواقع ، وهذا لا يتحقق الا بالاستدراك الصيروري التمنطقي وفي الخاتمة أقول :- ان الارادة البشرية ، الارادة التي تستدرك ذاتها ومنطلقاتها ، وتستدرك حقيقة محدوياتها السردية ، وتستدرك واقعها وما تحتاج الى توظيفه للانتفاع منه ، هي التي تتمحور حولها مسالة تطوير الاثار والموضوعيات الجزئية ، فهذه هي الارادة القائمة بذاتها فعليا.