تدور مخاوفُ البشر على إيجاد القوتِ والغذاء، والبحث عن أصنافِ المأكل والمشرب طلباً للحياة، ولا ضير فكل له شعبة من ذلكم الطلب، بيد أن المقصودَ من العيش على هذه الأرض هو إعمارُها بعبادة الله وتسخيرها طواعيةً له، وما البحث عن لقمة العيش إلا جزءاً من تلكمُ المنظومةِ الربانية التي فطرها الله في عباده لتحقيق العبودية له،
فحتى اللقمةُ يضعها الرجلُ في فيِّ أهله عبادة وقربى، لكن أن تكونَ حياةُ الأنسان مقصورةً على الرزق فحسب فيطلبه حيث شاء وممَّا شاء، ويكون حبُّه وبغضه وفرحه وترحه على أبوابِ الرزق مشرعة، ينام ويستيقظ وهو في همِّ الرزق والسعي له، فهذا الذي لم يُطلب منه طبعاً فضلاً على أنه لم يُطلب منه شرعاً
فإن الله عز وجل قد تكفل بأرزاق العباد كلِّهم، صغيرِهم وكبيرِهم، وطلب منهم أن يتفرغوا للعبادة وهو سبحانه متكفلٌ بأرزاقهم قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]
ولن يموت أحدٌ مهما كان وقد بقي له في هذه الحياة ذرةُ رزقٍ قد كتبه الله له
قال صلى الله عليه وسلم [إن جبريل ألقى في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها] .
صدقني أيها القارئُ الكريم أن الأمر بكل وضوح أنا لم نتعرف على الله حق المعرفة، ولو عرفناه سبحانه بكمال أسمائه وصفاته لذاب العبد عبادةً له، ولم يحمل همَّ رزقٍ ولاغيرِه ولكنَّه النقصُ في الإيمان يجعل في القلب ثغراتٍ ينفث الشيطان فيها بالهمِّ والحزن [الشيطانُ يعدكم الفقر] .
حينما تستشعر أنك عبداً لله، وأن كلَّ أمرك بين يديه، وأنَّه القادرُ على كل شيئ، تتبدد كل المخاوفِ ويتعلَّقُ القلب بخالقه، ويذهب عنه الروع والحزن.
تنفس معي هذه الآية، ودعها تأخذ بمجامعِ قلبكِ ووجدانك [اللهُ لطيفٌ بعبادِه]
يا اللَّه...!!
كم هي الطمأنينةُ التي تبعثها هذه الآيةُ الجليلةُ في القلوب
ألست عبداً لله..
أليس هو خالقك..
أليس هو رازقك..
أليس هو المدبر لأمرك
إذن..! فأبشر بألطافِ اللَّه عليك تحفُّك من كل مكانٍ وصوب.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أُولى لطائِفه على عباده وهي التي اشغلت افئدتهم، واقضَّت مضاجعهم قال تعالى [يرزقُ من يشاء]
في رسالةٍ مضمونها أنا الرزَّاق والذي سيتولى أمرك
ثم في انتقال عجيبٍ يذكر الله جل وعلا معنىً عظيماً وجديدًا للرزقِ لم يعتاده الناس وهو كما أنَّ في الدنيا حرثٌ يطلبه كلُّ البشرِ فهو سببٌ للحياةِ في الدنيا والعيش فيها، فهناك حرثٌ للآخرةِ من طلبه استحق العيش في ضفافِ الجنَّة ودرجاتها، في مقارنةٍ عجيبةٍ بين حرثٍ زائلٍ لامحالة، وبين حرثٍ باقٍ لايزول،
[مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ]
في هذا المعنى الجديد ماتزال النفس في ترددٍ بين هذين الحرثين، فكلٌ له من القلبِ مايعلَق به، شيئاً من الدنيا وشيئاً من الآخرة، فتأتي حكايةُ الله لنعيمِ أهل الجنَّةِ وحرثِ الآخرة جازمةً للنفوسِ وساكنةً إليها، وأنَّ أهلَ النعيم يتقلبون في روضاتِ الجنَّات لهم مايشاؤون من المآكل والمشارب والنعيم، فيزول مع ذلكمُ الحرثِ كلُّ رغباتِ الدنيا ولذائِذها وتزدادُ قلوب المؤمنين بحكايات النعيم شوقاً وتوقاً
[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ]
واعلم أنَّ من أكبرِ مايوسوس به الشيطان في قلوبِ العباد لزعزعةِ أمرِ الرزق وتَكَفُّلُ الله به سؤالٌ يضع النفس في ترددٍ وحيرةٍ، كيف أنَّ الله لم يغني الناس جميعاً وأنَّه قد قسَّم الخلائق بين غني وفقير، ومستقل ومستكثر، فيأتي الرد بعد هذا السياق بقليل فيقول تعالى [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ]
هو العليم
هو الخبير
هو البصير
عليم بخلقه خبير بهم، بصير بحوائجهم ومنافعهم ومايصلح لحالهم ومآلهم.
ثم يذكِّرهم سبحانه وتعالى بحالهم عند جفاف الأرض وقلة الماء وشدة الحال،
أليسوا عند تلكمُ الحالةِ ينصرفون إلى عبادة الله فيصلون له ويستغفرونه،
فيكرمهم الله بالمطرِ حياةً لهم وإيذاناً بعودة الحياة من جديد، فهكذا ينبغي أن يكون المرء في باب الرزق لله متوجهاً وعليه متوكلاً
[وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ]
فيامن أظناه هم رزقه
وأتعب جسده بالرزق وسعيه
الأمر يسير
أقبل إليه
وانطرح بين يديه
واعرض الأمر عليه
يأتيك الرزق سعياً
دونك محرابك أرهِ من نفسك خيراً وأبشر فالرّب كريم.
-
علي عسيريمهتم بالبلاغة القرآنية