زينب بروحو تكتب:هَاجرْ مَا يُضعفُك
هاجر ما يضعفك، و تحرر من تلك القيود.
نشر في 21 غشت 2020 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
هاجر النبي من مكّة، تاركا وراءه كل ما أحبّه فيها، أهله و بيته و صَحبَه. هاجر عندما أصبح بقاؤه فيها يؤلمه، يضعفه و يحول دون أن يحقق فيها أهادفه و رسالته التي أمرهُ اللّه بتبليغها.
كانت هجرتُهُ صلّى اللّه عليه و سلّم بمثابة تضحية كبيرة في سبيل اللّه، لما فيها من ألم الفراق، لم تكن سهلة على قلبه، و هو القائل في مكّة "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَك"، و مع ذلك هاجر.
هاجرَ الصَّحابة مع النّبيّ، هاجروا أرضَهُم تاركين فيها بَيتَهُم وَ مَالَهُم وَ وَلَدَهُم، و انطلقوا نحو نُور الأمل و اليقين في اللّه.
لم يهاجر النّبيّ و لا الصّحابة معه بحثاً عن المال أو الجاه، بل هاجروا يَحملُون همَّ دين مضطهد و رسالة يسعَونَ إلى تَبليغهَا. هاجروا خَوفاً عَلى أَنفُسهم منَ الفتنة، و الضَّعف و الخُضُوع وهربوا بدينهم إلى حيث يمكنهم تنفُّسُ هواء نقيّ منَ الصّلاح و الاصلاح.
تُعلّمنا هجرةُ النّبيّ، أن لاَ نخشَى ترك الأشياء و الأشخاص مهما كان حُبُّنا و تعلقنا بها عظيما، حين تَحُولُ دون تحقيقنا لأهدافنا، و حين يكون وجودها في حياتنا يضعفنا.
تعلّمنا هجرة النّبيّ أنَّ الهجرَةَ شقَّان، هجرَة حسيَّة من أَرض الكُفر أَو مُحيط السُّوء أَو الرَّذيلَة إلَى دَار الايمَان وَ مَوقع الصَّلاَح، لأَنَّ المحيط الّذي نتواجد فيه يؤثر على قناعاتنا و أفعالنا و تربيتنا و طموحنا.
لذلك سَتَجدُ نَفسَكَ أَحيانًا متعلّقاً بمجموعة منَ الاشخَاص قَد تَربطُكَ بهم عَلاَقَات مُختَلفَة، و قَد تكُونُ مُضطرّاً أَحيَاناً لتركهم و تَرك المَكَان الّذي يَجمعُكَ بهم، حفَاظاً عَلَى نَفسكَ وَ دينكَ و أَهدافك.
تُعلّمُنَا هجرَة النّبيّ، أَنَّ أَقسَى مَا يمكنُ أَن يُبتَلى فيه المَرء "دينه"، وَ أَنَّ أَعظَمَ هجرَة، هجرَة بالدّين، خَوفاً من الفتنة و خوفا من الضَّعف، من مُحيط مليئ بالجهل و الظُّلم إلى مُحيط مليء بالأمن و الأمان.
تُعَلّمُنَا هجرةُ النّبيّ، أَنَّ هُناك هجرَةً رُوحيَّةً، وَ هيَ هجرة مُستمرَّة لاَ تَتوقَّف حتَّى يَلقَى الانسان ربَّه، هي هجرة بالرّوح من الشّرك للإيمان، منَ المَعصيَة للطّاعة، منَ الكُره للحُب، منَ الحَسَد وَ الحقد للتَّسَامُح، من الكَذب للصّدق من التَّشاؤُم للأَمَل وَ منَ الخَوف للثّقة، وَ من الجَهل للعلم، وَ منَ اللاّ-هدف إلَى الهَدَف.
لَم يُهَاجر النّبيُّ بدُون هَدف، بَل حدَّدَ الوجهَة إلى المدينة المنوَّرة، وَ لَم يُهَاجر دُونَ غاية، بَل هَاجَرَ يَحملُ مَشرُوعاً كَبيراً وَ هُوَ إقَامَةُ الدَّولَة الاسلاَميَّة.
تُعلّمُنَا هجرَةُ النّبيّ، أَنَّ الصُّحبَةَ الصَّالحَة مُهمَّة في أيّ رحلة و أيّ هجرَة، سَوَاء كَانت حسّيّةً أو مَعنويَّة، وَ لَنَا في قصَّة صُحبَة أَبي بَكر الصّدّيق للرَّسول خَيرُ مثال، وَ هجرَة الصَّحابة مَع النّبيّ خيرُ دَليل، وَ اختيار الانصار كإخوَة أَعظمُ معنى للصُّحبَة الصَّالحَة الّتي تَأخُذُ بيدكَ، وَ تُقوّيكَ. فَاختَر صُحبَتَكَ جَيّداً.
تُعلّمُنَا هجرَة النّبيّ، أَنَّ الهجرَة مَشرُوع يَنقُلُكَ من ضَعف لقُوَّة، وَ قَد هَاجَرَ المُسلمُون و هم ضعفاء، لكنَّهم عادوا لوطنهم معزَّزين مُكَرًّمين تحت لواء قائدهم بعون من الله و توفيق منه...و قد نصرهم اللّه و أنصفهم لأنَّ قضيَّتَهم كَانَت عادلة و هدفهم كان سَام.
هَكَذَا عَاد النّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه و سَلَّم إلى وطنه قويّاً، عاد إليه يُحقّقُ فيه هَدَفَهُ، وَ يُحرّرُهُ من قُيُود الظُّلم و الضَّلاَل، حَتَّى نَتَعلَّمَ أَنَّ الوَطَنَ يَبقَى هُوَ الوَطَن، وَ أَنَّ هجرة الوَطَن لاَ تَكُون للأَبَد، بَل يَجبُ أَن يَكون الهدف منها عودةً إليه أكثر قوَّةً وَ أَكثَرَ نَفعاً، كُلّ حَسَبَ استطاعَته.
لَقد كانت الهجرة النَّبويةُ نقطةَ تَحَوُّل في تَاريخ الإنسانية، كَانت أَعظَم حدثٍ حوَّل مَجرَى التَّاريخ، وغيَّر مَسيرة الحَيَاة ومناهجها، كي تترك لنا أجمل ذكرى و أقوى درس يَدعونَا لنتحرَّر من القُيُود الوَهميَّة الَّتي نَعيشُها من الأعراف و التَّقاليد و القيود النَّفسيَّة الَّتي تُكبّلُ فكرَنَا وَ تُحَاصرُ تَقَدُّمَنَا وَ تُشوّهُ ديننا وَتحيدُ بنَا عَن تحقيق أَهدافنَا العَظيمَة من الصَّلاح و الاصلاَح للبشرية جَمعاء.
قَد يكون اتّخاذُ القرار صعبًا، سواء كانت هجرتُكَ حسّيَّةً من مكان لآخرَ، من مجموعة لأخرى، و من محيط لآخر، أوكانت معنويَّةً، من عادة سيّئة لعادة حميدة او من معصيَّة لطاعة... لكن تُعلّمُنا هجرَةُ النَّبيّ أَنَّ من كانت هجرتُه للَّه، فَلن يخيب، و مَن كانت هجرتُهُ مع اللّه لَن يتُوه و من كانت هجرته إلى اللَّه فَلن يَخسَرَ أَبَداً.
هاجر ما يضعفك، و تحرر من تلك القيود.
التعليقات
جميل تلك المعاني
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك