كان هذا الرجل فريداً من نوعه في تمثيل صورة الحاكم العادل القوي الرحيم والذي تربى في أعظم مدرسة أخلاقية قد عرفتها البشرية وهي مدرسة النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم. هو عمر بن الخطاب هذا الرجل الذي وُصف بأن ظاهره وباطنه سواء وعُرف بقوته العجيبة في التفريق بين الحق والباطل ولم تكن مقومات سيدنا عمر بن الخطاب في الحكم والسياسة بأقل من قدراته الفائقة في الدين والبلاغة والأخلاق الكريمة. وقد ضرب سيدنا عمر بن الخطاب أعظم الأمثلة في إدارة أزمة عام الرمادة والذي كان عاما شديدا عمَّ فيه الفقر والقحط وقلة الأرزاق وما نتج عن ذلك من أمراض وهجرة كثير من العائلات من بلادهم إلى المدينة محاولةً منهم لإيجاد ملاذٍ يلوذون به من الفقر والشتات النفسي والاجتماعي الذي أصاب المسلمين والبلاد حينها حتى إن ابن كثير ذكر بأن الناس لم تكن تضحك ولم يكونوا يتكلمون مع بعضهم البعض لشدة ما أصابهم من الحاجة والفقر والجوع. 

وقد اقتضت سنة الله عزّ وجلّ في خلقه أن يُنزل على الأمم الابتلاءات و الأوبئة لحَكمٍ منه سبحانه قد نعلم بعضها وتخفى علينا بعضها. وأمة الإسلام أمة من تلك الأمم.

وبنى سيدنا عمر رضي الله عنه إدارته المنقطعة النظير في إدارة هذه الأزمة الشديدة على مبادئ ستة ذكرها المؤرخون في كتبهم مطولة ومفسرة وسنسرد هذه المبادئ الستة بتلخيص واشارات خفيفة حولها كما يلي:

١. جعل من نفسه قدوة فمنع عن نفسه الطعام إلا الخبز والماء ومنع نفسه من أي رفاهية في الطعام من سمن أو لحم حتى يرفع الله الوباء. وتأثرت صحته جداً فأصبح هزيلا. وكان يقول لمن أشفق عليه من سوء صحته مقولته التي تحفر على الأحجار لأي حاكمٍ يحاول أن يضرب مثالا لقومه يحتذى به "كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسني ما مسَّهم؟!..

٢. أنشأ بما يسمى في الأدبيات المعاصرة "معسكرات اللاجئين" أولئك الذين أتوا إلى المدينة المنورة من القرى والبلاد فرارا من القحط والمرض والجوع وجعل رضي الله عنه لجانا تشرف عليهم وتطعمهم وتعالجهم وترعى نسائهم وأطفالهم. وقد ساهمت هذه اللجان فيما بعد بتنظيم توزيع المعونات التي أرسلها أمراء المسلمين من مصر والشام والعراق لضمان وصول المؤونات إلى الجميع. 

٣. إنطلاقا من فلسفة المسلمون كالجسد الواحد التي ترسخت في هذا الجيل العظيم وانطلاقا من مبدأ الانسانية المشتركة في رسالة الإسلام العظيم فقد استعان رضي الله عنه بامراء الأمصار في مصر والشام والعراق، فبعث لعمرو بن العاص في مصر: أتراني هالكاً أنا ومَن قِبلي؟ وأراك مُنَعَّماً أنت ومَن قِبلك؟ فواغوثاه. فبعث إليه سيلا من المدد أوله في مصر واخره المدينة المنوره. وفعل هذا أيضا حكام الشام والعراق.

٤.  انطلاقا من إيمانٍ صادق بأن الله هو مفرج الكروب ورافع البلاء عن الناس مع الأخذ بالأسباب، فقد استغاث رضي الله عنه بالله وتضرع إليه وجعل هذا التضرع والدعاء على مستوى الفرد والجماعة فخطب في الناس وصلّى بهم وجمعهم على الدعاء والاستغاثة بالله لرفع البلاء ونصحهم بالاستغفار من الذنوب اتباعا لأمر الله سبحانه في قوله تعالى "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا".

٥. أوقف حد السرقة لشبهة الفقر الشديدة إلى أن يرفع الله البلاء. وهذا من عظيم فقهه رضي الله عنه وفهمه العميق لمعنى الرحمة و العدالة الذي يشهد التاريخ بتطبيقه رضي الله عنه بأساليب ومناهج أصبحت تُكتب وتُدرس في جامعاتنا إلى اليوم لتكون منهجا للحاكم الذي يريد أن يطبق العدالة بين قومه على اختلاف أجناسهم وألوانهم أو أديانهم.

٦. تأجيل دفع الزكاة لعموم انتشار الحاجة بين جموع الناس.

وبالتأمل لحال العالم اليوم مع ما يواجهه من وباء عظيم عمَّ البشرية جمعاء فسنعرف الفارق الكبير وأن الإسلام أصبح بشكل كبير كلمات يكررها أكثرنا ويتبارزون بينهم والقلوب قد أصابها ما أصابها إلا من رحم ربي. وأننا على مستوى الشعوب والحكومات والأفراد قد فقدنا كثيرا من تلك المبادئ العمرية التي بها استطاع إنقاذ أمة لم تكن تمتلك من الإمكانيات ما نملكه اليوم. ولله في خلقه شؤون..