مراكش ، مدينة ملونة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مراكش ، مدينة ملونة

سيرة غير ذاتية لمدينة غير عادية

  نشر في 30 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

محمد القـنــور : كتابة على طيف ألوان مدينة 

الأنباء المغربية 

عندما تكتب زميلة صحافية أو زميل صحافي من طينة الزميل محمد القنور عن مدينته، فإنه يأخذنا في رحلة ذات ثلاث أبعاد في لحظة واحدة ً, رحلة في عمق المكان, ورحلة موازية في دروب روحه الجامحة وصمته الجميل, ومن ثم نجد أنفسنا عبر كل ما يوقظه فينا من ذكريات وشجون وفنون وتداعيات ، نتجول في حنايا أرواحنا نحن, فكأننا نتعرف على مراكش أخرى ، عبر المكان وعلى الكاتب وعلى أنفسنا تحت لمعان ضوء جديد. هي رحلة موضوعها مراكش ضمن كتاب ينتظر الطبع، والكاتب أحد العارفين بأسرار روحها.

فحسنا فعل الزميل محمد القنور عندما لم ينجرف إلي وصف مدينة خيالية جريا علي عادة بعض الكتاب بعد اطلاعهم علي "مدن الخيال والفؤاد" .. بل قادته ذاكرته صوب مدينته مراكش وبالذات أحيائها العتيقة وشخوصها المتلونة، التي جعلها محورا لأحداث مقالاته"مراكش مدينة ملونة".

بعد أن حولت ذاكرته الروائية أحيائها إلي موضوع لروايات ممتعة، حيث أشرك القارئ معه في وهو يجوب في رحلته الواقعية التي اختلط فيها الرمز بالحقيقة والخيال بالواقع.

استحضر القنور بمهارة الإعلامي المقتدر كثيراً من الحوادث وأعاد تشكيلها وصاغها، ليضفي علي مراكش أبعادا جديدة وصاغها معتمدا بالدرجة الأولي علي ذاكرته وتهويماتها.

المكان في مراكش مدينة ملونة هو الزمان، والزمان بها حركة في المكان

وإذا كان محمد القنور يحلم فانه جعل أحياء المدينة، مكانا لأحلامه لإدراكه بأنه ليس ثمة حلم غير مرتبط بمكان وزمان معينين، بحيث اختلط علي القاريء الحقيقة من الوهم والتاريخ من الأسطورة، فأغلب شخوص "مقالات مراكش مدينة ملونة" شخوص مستمدة من شخصيات حقيقية ومعروفة في المدينة العريقة ، وجزء من سيرة هذه المدينة بأناسها وتاريخها أتمني ان تترجم إلي لغات أجنبية عدة

وبالمناسبة فهي دعوة لكافة الزملاء والزميلات من أجل أن يأخذونا عبر صفحات "الأنباء المغربية " إلى دروب الحلم والذكريات والروح في مدنهم, وفي وجدانهم ومن تم إلى دروب أفكارنا و أرواحنا.

لقد تحدث الزميل محمد القنور عن تاريخ مدينة وواقعه المعاش في صور بانورامية رائعة متنقلا بجدارة بين الواقع والمتخيل. حيث نجح في أن يجعل فضاء روايته مشرع النوافذ لإدراكه بأنه يكتبمراكش مدينة ملونة لنفسه أولا. بل انه كتب فيها نفسه مما أسهم في نجاحه ككاتب وكصحافي.

ان المكان في مراكش مدينة ملونة" ليس معزولا عن الزمان والحركة لانهما يتمثلان في وحدة عضوية متلاحقة، وتضفي الأحداث عليها الحيوية والدفء. المكان ليس متخيلا بقدر ما هو واضح ومحدد، والصور فيها ليست مطابقة للواقع حرفيا، بل ثمة دور ولمسة للمخيلة في صياغة جديدة للمكان وإضافات لا تتطابق بالضرورة مع مشاهد المكان والأحداث. المكان في مراكش مدينة ملونة كما في بقعة في العالم يكتسب قيمتها من زمان تتفاعل فيه الرؤي والأحداث والحلم. فالمكان في مراكش مدينة ملونة هو الزمان، والزمان بها حركة في المكان. وفضائه يتمظهر في أسواقها وتوابلها في حدائقها وحوماتها، في ناسها وحجاراتها.

ومثلما أكتشف لينين واقع روسيا من خلال أعمال تولستوي،وبراري "الميسيسيبي" عبر مارك توين، فأن القاريء سيكتشف من خلال غوصه في ذاكرة مدينة مراكش، جزءا من سيرة هذه المدينة بأناسها وتاريخها من خلال "مراكش مدينة ملونة" التي أتمني ان تترجم إلي لغات أجنبية عدة..

مراكــــــــــش مدينة ملونــــة 

أسئلة طفولة

أتساءل منذ طفولتي المبكرة، كم من آذان فجر تصاعد من صومعة الكتبية ، منذ اكتمال استدارة سور مراكش وانتظامه في مداره تحت أشعة الشمس ، فملأ الدنيا البهجاوية وأيقظ الناس على وتيرة الصباح ؟ كم من شروق توالى على هذه الأرض بحيطانها الحمراء، حيث تتأخى الدويريات مع الرياضات، وحيث تعبق الأسواق والبازارات والدكاكين بروائح القناعة والسكينة التي كانت أول ما رأيت في طفولتي المبكرة ? فأقدم ما تحتفظ به ذاكرتي هو ذلك الأفق المراكشي.

كم من صباح توالى على مراكش منذ أن كانت أرضاً وعرة, موحشة، تمر منها القوافل نحو فاس وسجلماسة مع وقع سريان نهر تانسيفت إليها, وإمتدادات النخيل والمروج والروابي ودبيب المخلوقات الصغيرة وسعي العصافير وكل أشكال جهاد الإنسان؟

كم شروقا توالى على مئذنة الكتبية ؟ وعلى كل هذه المئذنات الشامخات والرفيعات والخجولات ، في حي المواسين وأسوال وإسبتين والقنارية والزاوية العباسية وبوسكري والقصبة وروض الزيتون، وتلك المئدنة التي يمر تحتها جملا كبيرا في سيدي عبد العزيز .

كانت أحجية الكبار لنا عندما كنا صغار، وكنت أمر من تحها ولا أعرف .

كم كنت لا أنتبه ....

يصعب تحديد ذلك رغم سهولة الإجابة الظاهرية, ذلك أنني كنت أعتقد دائما أني قادم من أمد يصعب معرفته إلى أبد من المستحيل تعيينه, وما بينهما أيا من تلك التي يمكنني الإشارة إليها, أن أسمّيها, رغم أنها تنقضي دائماً, لكن ما يسهل الأمر عليّ أن مكانها متعلق بها, بل إن زماني لا معنى له دون هذا المكان, كل لحظة في مراكش تستدعي موضعا بعينه, وكل موقع تحتويه لحظة, وقديما قيل إن الزمن مكان سائل, والمكان زمن متجمد, فمكاني المرتكز هو منطلقي, في غمرة تلك البوثقة التي تسمى مراكش , مراكش القديمة تحديدا, مراكش التي تعتقت فيها الأزمنة المتعاقبة, منذ المرابطين وحتى مطاعم الماكدونالز والوجبات الخفيفة والسريعة التي لا أدري ولا ألم بعدد المرات التي توالى عليها الشروق, هي بدورها لكنني أعي أن أول طلوع للشمس في ذاكرتي, يمت إلى أفق المدينة, من حومتي في أسوال وحتى تلال الجبيلات في براري الرحامنة ومنه منطلقي وأول وثبي ورحيلي, فكما ترحل الشمس, يرحل الضوء, ونرحل نحن أيضا معهما.

كنا نسكن ولا زلنا في درب الشريف, وكان منزل عائلتي يعد مرتفعاً بمقاييس الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي, من هذه النقطة بدأت صلتي بالزمن في مراكش , إلى الشرق مئذنة جامع إبن يوسف الصخرية التي كانت مغمورة بوهج التاريخ اللامتناهي، وبالذكريات القادمة من زمن عتيق, قبل أن تنحسر الحومة شمالاً بقبة أبي العباس السبتي حيث توحدت ترانيم الصوفية وبلاغات الأدعيات مع الحجر والقرميد الأخضر.

إلى الغرب كانت فسحات باب الخميس , تتوالى عند خط من نور ومن عبير, وجهة مغيب الشمس, يركن باب تاغزوت, عرصة الملاك, أذكر أنه في زمن طفولتي كان الأفق المراكشي مفتوحاً, لم تزحمه الأبراج وصحون الإلتقاط الفضائية المرتفعة التي تقوم الآن.

صعب عليّ تذكر السبب الذي جعلني أخرج بصحبة والدي - رحمه الله - إلى السطح فجرا, غير أنني أعي تماما وقوفي متطلعا إلى ذلك اللون الأحمر الذي يجيء من عتمة الليل مزيحاً النجوم إلى الأقاصي, احمرار خفيف كأنه الخجل لكنه قوي, يمهّد لدرجة أقوى من الأحمر الغامق, حمرة متدفقة, مستمرة, تنبئ بمصدر خفي,يسكن برج الحمام ، أطلال كبيرة وعملاقة طالما كانت ترعبني نهارا، تتعاقب درجاتها بحيث يصعب رصدها, أو حصرها, أو تعداد درجاتها, وعند كل همسة معينة وكل لحظة تلقائية ، كان يتدفق الضوء مثل شلالات أزوض, فكأنه ينفجر وأظن من خلال قاموس تأملاتي أن الفجر سمي فجرا في اللغة العربية، لأنه يتفجر على آذان الله أكبر.

ومن خلف سور الحمام المشرئب على طريق أمصفح يبدأ البزوغ, مجرد خط نحيل يميل إلى استدارة, يتضح شيئاً فشيئا, وفور اكتمال ظهور القرص الشمسي الخلاق والعملاق يصعد بسرعة. تلك لحظة لا تغيب عني ولا تولي إليها أنسب أي شروق أراه, استعدتها في أوضاع شتى, وفي أماكن نائية, استرجع تطلعي المبهور ودهشتي الطفولية التي ربما تشبه دهشة الإنسان القديم وهو لا يجد تفسيراً أو تبريراً لمظاهر دنيا الله, فيتخيل عبور السماء بقارب خفي, وتمتد الأذرع من قرص الشمس, خيوط الأشعة تنتهي بأيد, ذلك التطلع العميق, المبهور كثيرا ما أصبحت أفتقده الآن, ليس لأني أغيب عن شروق الشمس لكثافة البنيان, واختلاف الموقع, لكن لتوالي المظاهر وتوالي الوقائع, واتضاح أمور شتى من خلال المعرفة, المعرفة التي تحد أحياناً من تلك الإرتسامات الطفولية البريئة والبسيطة التفسير والتحليل والإستنباط معا ، انطلاقة هي الطفولة بعينها, لكن يظل الشروق الأول الذي احتفظت به ذاكرتي مهيمنا, ومرجعياً, يوطّد المآذن, القباب, البيوت, أبراج الحمام,وأقفاص الدجاج والديوك القصبية والدكاكين وأوراش النجارة والحدادة والحمامات والمزارات والأسواق والدروب وكل مظاهر المدينة العتيقة وأهلها, أولئك الذين يعبرون الزمن, ولا يستطيع الزمن نفسه أن يعبرهم.

مع الشروق يبدأ السعي نحو الرزق, منذ الفجر تسري الحركة، وتصطف قنينات الحليب أمام حظائر مربي الأبقار في طوالة ديور الصابون , وباب الخميس والزرايب والقصبة وأحياء أخرى وتخرج من بعض الفنادق التي ليست سوى خانات عتيقة للتجار والرحل ، كل العربات والكوتشيات التي تدفع باليد أو التي تجرها الخيول من مراقدها نحو الحياة الصباحية. أول ما يظهر منها العربات التي يقدم عليها الطعام, خاصة البيصارة,والحريرة التي تعد من مادة "إيلان" أو تلك الحريرة المصنوعة من السميد والحليب والمعطرة بأريج الزعتر، كانت توضع في قدرة مستديرة ضخمة وعميقة من الطين أو من النحاس الأحمر قبل أن تسود ثقافة الألمنيوم, يتم النفاذ إلى داخلها بواسطة المغرفة الطويلة, تخرج محملة بحبات السميد الطرية التي استوت على نار هادئة, فصارت لينة, ناعمة مثل الزبد.

حريرة إيلان ونسمة الباروديين

كان المصطفى، إبن الحاج "بائع حريرة إيلان" في حي الباروديين ، يخبرنا دائما ونحن أطفال أن "القدرة" تركن في الموقد طوال الليل, حيث الوقود الذي يشعل النار البطيئة التي يتم بها تسخين ماء الحمامات العامة والذي يصلها عبر أنابيب من فخار تصب في المغطس المليء بالماء الساخن ومنه يتصاعد البخار في فراغ محدود يجلس به الرجال والأطفال صباحا, ومع اندثار دكاكين الحريرة العامة التي بلغ عددها أول السبعينات للمئات, لم يتبق منها الآن إلا حوالي خمسة, بدأ باعة الحريرة يستخدمون وسائل مباشرة, لكن في كل الأحوال لابد أن تكون النيران هادئة تسوي إيلان والسميد وحريرة الدرة على مهل, حتى تنضج الحبات الصلبة, الجافة, وتلين بحيث تستحق الوصف الذي كان يطلقونه الباعة عليها عندما يصفونها بــ اللوز.

وللباعة المراكشين تراث طويل في المناداة على بضاعاتهم في أصوات منغمة, ويصل الأمر إلى تدليل البضاعة, فالطماطم لونها أحمر كخد العروس, والتين لا يشبهه شيء, أذكر في طفولتي أربعة رجال ضخام الأجسام, كانوا يدفعون أمامهم عربة صغيرة, فوقها أنواع مختلفة من حلويات المواسم, ذات الألوان الزاهية، والمذاقات الرفيعة بعضها مستدير,وبعضها مستطيل والآخرى مربعة في أشكال شتى, كانوا يجيئون إلى الحومة مرتين, الأولى عند شروق الشمس, والثانية عند الغروب, وما كان يثيرني, أصواتهم القوية التي ترتفع بالغناء.

"جبان كولوبان" يقدم فوق عصي لامعة، وأما "الفانيد" المرسومة عليه ساعات بأوقات مختلفة فكانت يعرض في قارورات زجاجية لامعة عند كل البقالين، ممن يبيعون مختلف الأزمنة .

بيني وبينكم ، كنت أعشق النوع الإصفر من هذا الفانيد. . ربما كان الأكثر حلاوة .

وعلى مدخل "حي زاوية لحضر" القريب من منزلنا ومن حومتنا ، حيث تتواجد تلك المؤسسة الثقافية الكبيرة"دار بلارج" كان "كوح" يبيع الحمص المسلوق للأطفال على عربة منمنمة, مزوقة, ألوانها متضادة, الأحمر يقابل الأخضر, الأزرق يقابل الأصفر, عبارات مطمئنة, تؤمن البائع والمشتري معا. لتعلن أن الأرزاق على الله...

وعبارة "توكلت على الله" ، التي كانت تزين كل دكاكين "سماسرة العقار ، هذا ، طبعا قبل الطفرة العقارية التي عرفتها المدينة مع أواسط الثمانينيات.

أما في دكاكين باعة الفواكه والخضارين فكانت الآية القرآنية:"كلوا من طيبات ما رزقناكم"، هي الإيقونة الصارخة عند عمق كل هذه الحوانيت، إلى جانب صورة المغفور له محمد الخامس، رائد معارك التحرير بالمغرب المعاصر.

أما مطاعم بائعي الكفتة في الباروديين وباب تاغزوت حيث كان الزبائن من الموظفين الصغار و الحرفيين,يتناولون وجباتهم وقوفا، والبعض منهم من أبناء المدينة يعشقون الأكل في الشارع, ثم تناول الشاي أو القهوة وتدخين السجائر المغربية الشعبية ، ذات الأثمنة الزهيدة صباحا بمنزلة اجتياز مراحل فاصلة بين البيت والعمل, نوع من التدرج, والضرورة, إذ يستيقظ معظم الرجال والأطفال يغطون في نوم عميق, فلا يرغبون في إزعاجهم, مهمة بائع الكفتة أن يغرف أصابع اللحم البقري المفروم ومرق السمن البلدي في الأطباق الصغيرة, وأن يجهز الوجبة بإضافة الملح والكمون والفلفل الأحمر لمن أراد من الزبناء, ثم يقوم مساعدوه بغسل الأطباق في حوض مليء بالماء، تندلق منه مياه الصنبور بلا إنقطاع.

حركات البائع سريعة, بارعة, يقف فوق صندوق خشبي, يجعله في مستوى أعلى من أرضية الدكان, لا يسأل أي زبون كم خبزة أكل, أو كم قضيب كفتة التهم? الوجبة لها سعر, فإذا تناول الزبون أكثر من قضيب أخبر به, إذ لا يمكن المغالطة في الأكل, فالناس في مدينتي كانت لا تقو على أكل الحرام.

كانت فطومة، فتاة تكبرنا بخمس سنوات، تضربنا كثيرا، بالمناسبة وبدون مناسبة، تحثنا على احترام الخبز,تقول أن الله يمسخ الأولاد الذين يرمون الخبز في الزقاق فئرانا .

أخبرتنا ذات مرة أن طفلا يسكن في إحدى الحارات البعيدة رمى بقطعة خبز، على قارعة الطريق ، فمسخه الله لقلاقا،هذه المرة ليس فأرا ، وظلت والدته تعاوده كل يوم، وهي تنظر له رفقة اللقاليق الأخرى ، المستوطنة على الجهة الأخرى من برج الحمام في أمصفح، ولأن فطومة ثقة ، وروايتها مقدسة في عقولنا البريئة فقد كنا لانرمي أية قطعة خبز في الطريق.

مرة سقطت مني قطعة خبز على الأرض، فلملمتها ووضعتها في ثقب صغير بحائط دار الحاج الرحماني.

الحريرة والبيصارة ليس طعام الإفطار المراكشي الوحيد, فقد كان عند مداخل بعض الحومات دكاكين تعد الإسفنج، دكانا في حي الباروديين وآخر في أسوال وثالث في حي أمصفح, والمراكشيون يعرفون الإسفنج مقليا بالزيت ، ومخلوطا أحيانا بالبيض البلدي ، هذا قبل أن ينافسه ذاك الإسفنج النصراني المحلى بالسكر الناعم الأبيض والمخلوط بالحليب.

كانت دكاكين أخرى في المساء تقدم الفطائر المقلية في الزيت أو السمن, فطائر صغيرة شهية,تسمى "البريوات" نرى عدداً منها معروضاً فوق بعضه البعض,إلى جانب الشباكية يتناول البائع إحداها, وعلى طرف السكين المثلث يقلبها في الهواء ليتلقاها بمهارة, ثم يضعها في الإناء الذي يحتفظ بحرارته موقد صغير, ضعيف اللهب موضوع بالأسفل.

المهارة في حركات البائعين قاسم مشترك, الخفة, المهارة, القدرة على تلبية طلبات الجميع في وقت واحد, ولكنها لا تهدف إلى ذلك فقط, إنما تعني أيضا مهارة البائع وشطارته.

فالسرعة والمهارة, الخفة والإتقان, شرطان متلازمان لأداء المراكشي الصميم أو كما يُعرف بين المراكشين بابن البلد.

ابن البلد

بسعيه في مراكش , قديمة أو حديثة, يضفي "لمعلم كونو" عليها خصوصية, أهم ما في المدن ناسها, أهلها, خاصة المقيمين, الذين يجمعون داخلهم الزمان المنقضي والمكان المقيم.، في تعدد جميل يشرب من مختلف الروافد الحضارية التي شكلت ثقافة المدينة الحمراء.

أما الشاي المنعنع الطازج واللذيد فقد كان دائم الحضور في الشوارع, والدكاكين, في الدروب, والأزقة, في الأسواق, والوكالات والمقاهي, حاضر دائما حتى في حفلات الزفاف والمآتم .

نعم، فقد كان لمعلم "كونو" يرتدي زيه التقليدي, الجلباب الواسع الأكمام, المفتوح عند الصدر, يبرز من تحته الصديري المصنوع من القطن, وأزراره القماشية العديدة, المنتظمة, والمتعاقبة, حول عنقه شال من الصوف شتاء, أو القطن المنسوج يدويا صيفا, أما غطاء الرأس فهو الطاقية المراكشية والتي تزيد من قوامه الفاره, ومشيته المتأدة, يعلن في كل خطوة أو إشارة منه عن تمكنه, خاصة أنه كان صاحب دكان على مشارف بوابة درب سيدي مخلوف بحي ديور الصابون, كان "كونو" ممن يطلق عليهم لقب "معلم", لقب يمنحه الناس لمن أمضى قدرا معقولا يبيع ويشتري ، يصنع ويبدع، ويصدق في العهود ويبدي آيات الشهامة, ينجد الضعيف,رغم حاجته، "المعلم" لفظة مطلقة, غير مقصورة على فرع معين من النشاط, تشمل كل الأنشطة, إنها تعني معرفة صاحبها بأسرار مهنته, والعلاقات بين الناس, ومعرفته بالأصول, والأصول في لغة الحياة اليومية للمراكشيين تعني منظومة القيم والعادات المتوارثة داخل هذا المجتمع القديم, وربما كانت كلمة "الأصول" تعني أو تقابل اللفظ المغربي العريق "حرفي" ابن البلد الذي يعرف الأصول, يقيم الحق, ينتصر له, يقف إلى جانب الضعيف منهم, عنده مروءة,ونضج ناصح , وذكاء فطري, كمراكشي من الصميم.

وتعرف المدينة فئات عدة, تجار, علماء دين, ومثقفين وأثرياء, ومن "أيها الناس" لكن ابن البلد يظل هو كل هؤلاء ، المراكشي الصميم الذي يعيش في المناطق العتيقة, ويرتبط بالمكان وعادات الناس, عرفت بعضهم لم يغادر الزقاق أو الحارة التي يعيش فيها معظم سنوات عمره.

والحومة هي الحارة لدى الأشقاء المشارقة ، حيث تشكل  وحدة أساسية لتصميم المدينة, إنها صورة مصغرة للكون الكبير, للحياة بتنوع مصائرها وتداخل مساراتها وتفاعلاتها, لذلك أقول دائماً: الحارة عالم صغير, والعالم... حارة كبيرة.نسمات الأصيل وعبق الشفق.


  • 2

   نشر في 30 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا