مُحمد سامى أبو القاسم يكتُب : المُواوى - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مُحمد سامى أبو القاسم يكتُب : المُواوى

قصة قصيرة: المُواوى

  نشر في 18 غشت 2017 .

لو ترُوح عند تُرَب الصعايدة بعد صلاة العيد ,كنت تلاقينى قاعد جنب "الشيخ عطية المُواوى" أواسيه وهو ينظر للقبر الذى إختاره ليدفن فيه يتمنى الموت متأففاً من خساعة الأجل وتباطؤه اللئيم . .يشير للقبر بأظافره الطويلة. .ويبكى بحرارة ويهتف بين دموعه الغزيرة التى تتدحرج على وجهه المُترِب مخلّفة خيوط طينية :

"ولا يِعجِبك قبرى وتزويقه

من فوق وسيع و تحت . .

القبر يا ضيقه

ولا يعجبك قبرى ولا رخامه

من فوق منوَّر وتحت . .

القبر يا ظلامه

ع الجدعنة . . ف القبر أهم راقدين

العضم سوِّس . . والشِّناب واقعين"

كل عام ..كل عام .. نعم لا زلت أذكر كلماته جيدا ! !

الكثيرون من معارفى كانوا يستغربون علاقتى بهذا الرجل الهَرِم, الطاعن فى السن, لم يُعرف له أصل ولا فصل ولا صديق ولا زوجة ولا إبن . . مقطوع من شجرة مقطوعة من شجرة . . هو عبارة عن كتلة من تراب,غبار,سخام وقذارة مثقوب فى أعلاها ثقبيّن يبرُقان بذكاء وشقاوة غريبة هذا الرجل ليس فيه ما يدل على حياة إلا عينيه اللامعتين البرَّاقتين بالذكاء والشقاوة أما باقى جسده فهو ميّت تقريبا فمن فرط الوسخ وهو قادم من بعيد تراه يلمع من تصلّب الدهون والسخام على جلبابه. .

يظهر فقط فى بلدنا وقت العيد, يلف البلد من أولها لآخرها تجده فى مقاهى الحرفيين والغرز المختفية بين الغيطان وحفلات الزفاف وأفراح النقطة وموائد الذكر وصلوات الجنازة. . يتواجد بلا حديث بلا طلب بلا كلام وكأنه يعتذر عن وجوده , لا يتحدث مع أحد إلا بالكلام المُقَفَّى والأغانى التى تفيض فى أُذُنَك بكل إنسيابيةٍ ونعومة, حتى أنك لو كنت تتكلم مع أهل بيتك وهو يمر فى الشارع بأهاذيجه وصوته القوى الأثر ستسكت وتطلب من الحضور أن يسكتوا :

_ششش . . الشيخ عطية معدّى !

قد ينادى عليه أحدهم فرحاً بصحبته المؤنِسة ولِسانه المُقَفَّى بالعسل الشعرى :

_تعالى يا شيخ عطية. . ريّح نفسك من المشى شوية !

فيرد :

_شَيّبتِنى يا زمن ولا أستحقش شيب . . وأخدت منى الحبايب ولا استحيت العيب !!

ولأننى صديقه الوحيد دفع ذلك الكثير من الناس أن يتساءلوا بشغف محرج لى :

_هو إيه الحكاية ؟!

وقد يغمز أحدهم فى خبث :

_هما بيعملوا إيه بالظبط ؟

وقد يقف "الشيخ عطية" أمام بيتى بدون أن ينادى فأخرج له وبدون أن أتحدث أنزل ليصطحبنى إلى مكان جديد ينصب فيه خيمته لأستطيع زيارته :

_أيوه ياعم من لقى أحبابه ! !

كثرة إستغراب الناس دفعتنى إلى تقييم علاقة صداقتى ب"الشيخ عطية" فوجدتها فعلا غريبة على من لا يعرفنى , دعونى_يا من تعرفونى_ أحدثهم عن نفسى أولا ..

أنا من صِغَرى لا أفضِّل الحديث. . وأستعمل الكلام مثل آلة التنبيه "الكلاكس" , أتحدث إليكم من قاع ذاكرتى الطفولية التى طالما أسعفتنى بغريب الذكريات التى أتعجب منها كثيرا كما سترون قليلاً منها .

كنت آكل وأشرب وأخرج من البيت أتفرج على الناس وأنام. . فقط أنام . . .

أنام . .

أنام . .

أنام . .

لو كنت موظف حكومى وتذهب مبكرا إلى عملك , فيجب أن تحاذر وأنت تمر على أى مقلب قمامة فقد تجدنى نائما فى إطار سيارة نقل أو فى جوال مهترئ مثقوب , أو فى صندوق القمامة الخالى منها بجوار الكوْمة فلا تدوسنى حتى لا أصحو مندهشا وأقول:

_ منكم لله يا بُعَدَاء وأنام مرة أخرى

, أو فى طاولة طعام أى حظيرة حيث البهائم النائمة أو التى تلعق فى صدغى بحنان وانا مستغرق فى نومى. .

تلك ليلات البيات الخارجى أما عن البيات الطبيعى للطفل فى بيته فأنا كطفل كبير الحجم, مكلبظ الوجه , بطئ الحركة . . كانت أمى تتهيأ لترتيب المنزل فتُشبِّك المِنديل القماشى على صدرى وتضع فى يدى المتختخة البسكويت وتضعنى بجوار كوب الشاى الساخن _أعنى ما أقول "تضعنى"_ على مصطبة المنزل فى إشارة ضمنية لى بأن أغمس هذا الشئ فى ذاك وأضعه فى فمى , وعلى المارة بأن يتطوعوا ويجففوا المخاط بالمنديل المعلّق على صدرى, وقد يُبرطِم أحد المتطوعين لائما شخصاً ما غائب بينما يعالج ما تسرب من أنفى وفمى :

_ ياساتر على سحنتك ع الصبح, هم طلعوك بدرى النهارده؟ !!

وأجلس أنا لأراقب تلك الأشباح العجيبة تفعل بى تلك الفعلة يومياً وتمر بسرعة مذهلة من أمامى ذاهبة إلى مكان أجهله ولا أعرف أنى أجهله, ولا أعرف أنى لا أعرف أنى أجهله , بينما أنا مندهش !!

لا زلت أذكر ليلة العيد السابق لعام دخولى المدرسة الإبتدائية كنت أرتدى بذلة حريرية جميلة ببابيون أحمر أنيق بلا داعى وبدون إلحاح منى على لبسها يوم الوقفة , لعل أمى أشفقت عليّ من فرط بلاهتى فألبستنى تلك البذلة لتميّزنى وليتها ما فعلت , وفى زحمة كحك العيد والتجهيزات إلى الصباح لم يفطن أحد إلى إختفائى فقد نِمت فى كاوتش سيارة نصف نقل ولم أجد حرج فى النوم فى الكاوتش الذى رأيته يفتح ذراعيه المدوّرة الحانية ليستقبلنى فى دائرته الحنيّنة فلبيت نداؤه ونمت ..

تحت هذا الضوء السهَّارى لبزوغ فجر العيد , وجدت وجه أسود تماما وعينين براقتين تشعان إندهاشاً وترقُّب تقتربان من وجهى وتحملقان فيه , إنتابنى الرعب ومسكت الذقن الأِشعث فسقط الوجه بشعره المكوّر خواتم والجسد كله بما يحمله من جوال على ظهره فى حِجرى الوثير , وارتفعت ضحكة غلفت سكون الكون كله لم أنسها أبدا. . تلك الضحكة . .الصافية . . الحانية. . المرعبة . . المفاجئة فى نفس الوقت الذى إرتفع فيه آذان الفجر. .

لم أتمالك نفسى وجريت على البيت مُحمَّل بخليط من الروائح الكَرِيهة من طبيخ معفن وروث الحيوانات الليلية السابلة وقذارات متنوعة من مخلفات المطابخ ولم أخبر أحد يومها أننى عملتها على نفسى , تلك الثقيلة. . الدنيئة. . المفضوحة , فقد تطوّعت رائحتى قبل أن أفسر لهم بلسانى الذى أعجزه التعبير عما رأى فقط إكتفيت برفع حاجبىّ مندهشا وأنا أحاول الكلام وكأن ما حدث هو حكاية عن شخص آخر سأرويها. .

  لم أكن رأيته منذ سبع سنوات جالسته أول أمس تعدى التسعين ولم يعرفنى للأسف_مع ظنى أنه يمتلك كل ذكريات طفولتى ومراهقتى غير تلك المبتسرة الباهتة_ وصوته الشجىّ القوى أصبح رفيعاً متهدماً يسير فى الشوارع بجلبابه حائل اللون المغطى بالسُّخام اللامع مفرجاً ما بين ساقيه رافعاً أسطرة بوليه بيديه وهو ينظر للناس بكل كبرياء وعظمة كأنه يتمرد على حاله , حتى أنك إذا أقدمت على إعطاؤه حسنة بحُكم العيش والملح نظر لك من فوق لتحت وفى لهجته النحاسيه الممدودة التى أسمع صداها فى أذنى الآن :

_ كل واحد على ح..ا ل..ه وعلى م ..ا ل..ه وعلى عي..ا ا له ! !

والله زمان يا شيخ عطية . .




  • محمد سامى أبو القاسم
    احب الكتابة ،أرى أن القصة حياة على الورق أكثر دلالة وأكثر عمقا،وأن الأدب الحقيقى هو ما يصالحنا على الواقع لا يحاكمه. https://www.facebook.com/mohamedsamy11144/ msamyy8@gmail.com
   نشر في 18 غشت 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا