معلّمتي التي أحببت.. عَيْشتُّو بنت حِينْ
معلّمتي التي أحببت
نشر في 20 أبريل 2016 .
أخرجني أبي حفظه الله من حلقة للتحفيظ في المسجد النبوي الشريف من عند الشيخ عبدالرءوف القارئ رحمه الله لما وجدني وأنا ابن ١٣ عاماً استغل ساحات الحرم حينذاك للعب والتعرف على المصلين والزائرين في فضول كنت فيه صاحب سبق ألهاني عن جودة حفظ مع الشيخ .
كانت لجدتي من أبي (ميمّي) عائشة بنت السالك رحمها الله صديقة عزيزة تصغرها في السن بعض سنين حافظة للقرآن الكريم ماهرة في تلاوته صاحبة علم بالسيرة النبوية والتفسير والفقه كأنها بل هي (عالمة فنون الشريعة) حفظاً وتدبراً واستظهاراً منذ قدمت من بلادها "شنقيط" موريتانيا .
ألحقني أبي بالتعليم عندها في بيتها الصغير المتواضع في حي "الذهبي" بالمدينة المنورة وهو عبارة عن غرفة واحدة وأمامها ساحة مغطاة بالخشب تطل على "سيب" طويل ترابي في آخره باب ذو دفتين ونخلة قصيرة القوام .
كنت أذهب لهذه السيدة الفاضلة فجراً من منزلنا في "الحرة الغربية" قاطعاً مساحة ترابية مليئة "بتراب غباريّ أبيض" كأنه "النورة" وسط عواء كلاب أقرأ سورة "الجن" حرزاً منهم .
وفي كل رحلة صباحية أصل لبيت معلّمتي وأنا شبيه إنسان كان في عراك مع الغبار تلطيخاً وهيئة وكحة فيها من بركة تراب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير .
عند الباب أطرقه رغم فتحه من ذي قبل فأسمع صوتها رحمها الله تقول "سبحان الله" وهي شفرة تعليمية بمعنى ادخل وتفضل فهي لا تزال في سكوت عن كلام الدنيا بعد صلاة الفجر تسبيحاً وذكراً حتى تصلي الضحى .
بجوار تلك النخلة الموازية للباب يوجد "علبة" حديدية من علب "حليب النيدو" قديماً نغرس فيها "مساويك" طوال قطّعناها أنا وزميلة تدرس معي وزميل آخر وشقيقيتي من جذوع ذات النخلة بعد أمر معلمتنا لنا يوم تعاهدنا على التعليم في ميثاق تحفيظ وكلٌّ يعرف مسواكه .
يجب على كل تلميذ دخل الجلوس عند تلك النخلة في جلسة "الكرسعة" ومعه أبريق ماء بجانب "حفرة" يمتد ماؤها ليسقي النخلة من تصريف مياه بعد سواك تراقبه معلمتنا شكلاً ومضمونًا وتنهى وتزجز بنفس الشفرة "سبحان الله" عند الخطأ في السواك أو عجلة الوضوء فلا قراءة قبل هذين الشرطين .
أيام برد قارس في المدينة المنورة لم تعفينا من وضوء ولو توضأنا في بيتنا ولا سواك ممنهج للأسنان واللسان حتى وبعض أجزاء جسمي الخارجية تشققت من أثر "الشّقاق" أو "القشبة" وهي خشونة بسبب جفاف البرد زمناً لم تكن مرطبات الجلد متاحة لكل ذوي الدخل المحدود .
هذه المرأة الفاضلة لها زي خاص حتى لاقت ربها وهي "ملحفة" سوداء تغطي كل جسدها فلا والله رغم سنوات قضيتها بين يدي تعليمها ورغم كوني لازلت طفلاً لم أر منها غير كفين طاهرين تكتب لنا بهما في "اللوح" أو ثلاثة أرباع وجه وضاء قرآني كنت أختلس النظر له على حين غرة .
معلّمتي كانت تكتب بيدها اليسرى في "ألواح" خشبية كل يعرف لوحه بأقلام هذبت من ذات النخلة شرحت لي في أول يوم تعليمي عملياً كيف أصنع "المسواك" و "القلم" من جذوع النخل وكيف أصنع "الحبر" من الفحم في "دواة" من حجر أسود وكيف أذيب معه قليلاً من "الصمغ" ليكون لون الحبر أنضر ويتماسك .
بعد فترة تدريب صرت أكتب "لوحي" بنفسي من أثر تعليمها وتحفيزها حتى صرت أكتب وجهي اللوح وأحفظهما متخطياً حفظ "ثمن" حزب إلى "ثمنين" في صباح كل يوم مراجعاً عشرة أحزاب مما سبق حفظه .
معلّمتي كانت تفسر لي القرآن بطريقة تجمع القصص والنصح وسبب النزول دون طلب مني فلا تتركني وتساؤلات في عينيّ وأنا صغير عن "مائدة" من السماء أو "ذو القرنين" أو "عزير" ونحو ذلك وكنت أخرج من درسي وكأنني كنت في ملتقى ثقافي باهر .
هذه المرأة الفاضلة العالمة صاحبة حرفة فهي بارعة من شدة احترامها وحبها لكتاب الله وأي كتاب يختص بالدِّين تصنع "سفراً" أو "مجلداً" من جلد وسائد جلدية تسمى "الصرامى" مع قطع "الكرتون" لتكون حافظة لأي مصحف وجدته ممزقاً أو كتاب عثرت عليه في غير عناية مستخدمة "الصمغ" العربي تشق بالسكين وتقطع وتهذب في هندسة حياكة لا مثيل لها تعلمتها منها وهي في أثناء ذلك تعلمنا وتسمع منا وتتابعنا .
هذه المرأة من بيت علم أصلي وأسرة عريقة أباً وأماً للقرآن أهل وللنسب الرفيع عنوان ورغم ذلك كانت متواضعة لحد البكاء لو مرض أحدنا تعوده في بيته وتتألم له وتهب لنا من الحلوى والمال وما تيسر من طعام ما أفتقد لذته من نيف وثلاثين سنة .
معلّمتي كانت تقول لي يا محمد أهل القرآن لا يغضبون ولا يرفعون أصواتهم ولا يكذبون ولا يسرقون ولا يخونون،يا محمد أهل القرآن لا "يستحفون" ومعناه لا "يطفشون" فالقرآن إن قرئ فهو طرب وإن سمع فهو جمال وإن فسر فهو عجب وإن كتب فهو سحر .
حفظت من القرآن على يدها رحمها الله جله شارباً غسيل لوحي في كل مرة في "زبدية" مخصصة لذلك تحترم محو القرآن أن تناله الأرض حتى أتممت القرآن ولله الحمد بعد ذلك عند الشيخ الفاضل خطري بن سادي أمدّ ربي في عمره ومتعه بالصحة والعافية .
معلّمتي كانت الوفود من رجال ومشائخ يأتونها ضحى أو ظهراً يستفتونها في مسائل فقه وأصول فقه وتفسير هي له متقنة حافظة ملمة .
ما وجدتها ظهراً إلا ممسكة بكتاب من مجلدات تقرأ وتتابع وتبتسم .
قليلة الكلام في الدنيا كثيرة الدعاء لي ماضية في الذكر والقرآن حتى توفيت قبل أكثر من عشرة أعوام ودفنت في البقيع ذلك الهدف الذي من أجله جاءت .
تذكرت معلّمتي هذا اليوم وأنا أتصفح سفراً قديماً عندي مجلداً بنفس الطريقة التي كانت هي تصنعه رحمها الله .
أقول لكم:
التعليم "معلمة" حين تعلمنا كيف نعيش بحب قبل أن تطالبني بحفظ آية ، وحين تعيش معي أفراحي وأحزاني قبل أن تنهرني على سوء حفظي ، وحين أجد في يومياتها ما يجعلني أثق بأنها تعلمني للتعليم لا لشيء آخر ..
هذه:
عَيْشَتّو بنت حِين
كم أنا مشتاق لك أيتها الحبيبة العظيمة الجليلة رحمك الله وغفر لك ..
ونحن اليوم:
نريد إصلاح التعليم وما استطعنا على الأقل أن نحب الطلاب والطالبات . فالحب التعليمي عمل وسلوكيات وحياة ويوميات ، لا حفلات وادعاءات ونرجسيات ..
(طيّب .. وبعدين !!) ..
-
Mohammad ahmad babaأكتب ما أعرف ..
التعليقات
شكرأ لك أخ محمد على موضوعك.