تجلس فى أحد الأركان واضعة إحدى يديها على الأخرى ،ورأسها متكىء على كتف والدتها ،أنظر إليها وأعيد النظر مرة تلو الأخرى وكلما أحسست بأنها سترانى أو ربما ستتلاقى أعيننا ألتف بنظرى إلى الزاوية الأخرى وأتظاهر بالإنشغال فى أى أمر آخر ..
أحاول أن أرى منها ابتسامة واحدة أو أى أمر يجعلنى أطمح أن يُزين هذا الوجه ابتسامة عند محادثتها ، وحينا يكون أقصى ما أطمح إليه مجرد القبول ،القبول وحسب ..
فى إحدى المرات وأنا ألتفت إليها وجدتها قد عدلت من جلستها وأقامت رأسها ،وأخذت عيناها تتجولان فى المكان بنظرة لم أعلم سبيل لمعناها ،حينًا أراها انكسارا وحينا حسرة وحينا أمل ،وكأنها فى عينيها الصغيرتين وبنظرة واحدة تحمل كل معانى الأرض ..
لكنه فى جميع الحالات كان يحمل قوة ما خلفه .
تضع غطاء رأس على رأسها لكنه لم يُفلح فى أن يُخفى أن عدد شعرات رأسها بات من اليسير أن تُعد على أصابع يديها وربما يزيد عنهم بقليل..
استجمعت شجاعتى وذهبت إليها وابتسمت وسألتها أيمكننى الجلوس هنا ؟!
فردت على والدتها بالردود المعتادة فى مثل هذه المواقف وأتاحت لى مساحة لأجلس فيها ، ولكن المهم فى الأمر هى تلك الابتسامة الجميلة التى ارتسمت على ثغرها وكانت هى تأشيرة الحديث لى ..
فجلست بجوارها وابتدأت الحديث كأى تعارف عادى سائلة عن اسمها فأجابت أنها تُدعى شروق وأنها ذات تسعة أعوام وبضعة شهور فلم يمر على إتمامهم الكثير ،وسألتها أن نلعب سويًا كعادتى مع كل الأطفال هنا لكنها امتنعت وأشاحت برأسها عنى وعادت لتضعها على كتف والدتها من جديد ،وعادت عيناها للشرود بعيدا ..
وأرادت والدتها تبرير الموقف لدى أو هكذا ترائى لى من نظرتها ونبرة صوتها فأخبرتنى أنها لن تستطيع أن تلعب معى فهى لا يمكنها الحركة كثيرًا ..
حينها قررت أن أنتقل بحديثى إلى والدتها سألة إياها عن ماتعانيه شروق وحينها أخبرتنى:
"أنها كانت تعانى من سرطان بالمخ ولكن فى مرحلة متأخرة ،وأنها قد تحسنت لكن العلاج الكيميائى أثر على الجانب الأيسر منها فلم يعد يتيسر لها الحياة كما فى السابق وأنها عاودت الحركة منذ فترة قريبة ..
سكت من دهشة الموقف وربما من غباء سؤالى ولم أجد تعقيبا غير الدعاء لها بالشفاء جهرًا ولوالدتها ولها بالصبر خفيًة ..
ونظرت حيث شردت هى وشردت معها ، وتراءت لى هى حينها لكن وهى لازلت طفلة بكامل قوتها وصحتها … أراها تلعب هنا وهناك والبسمة تعلو وجهها ،وخيبتى من سؤالى ذلك وجهلى بما أحدث بداخلها يعبثان برأسى ويتسائلان هل له الآن يد فى ذاك الشرود ؟أم لا ؟،و طمعت بأن أكمل تلك الصورة صورة شروق ابنة التسعة أعوام وهى تلعب جاهلة بما يحمله لها القدر ..
اعتدلت فى جلستى لكنى فى هذه المرة عزمت على أن أجعلها تهرب من هذا الشرود إلى حديثى ، فقلت شروق ثم صمت ، فنظرت وصمتت وبدأت تعابير وجهها تتبدل إلى نوع من الحيرة وكأنها تخشى السؤال القادم لكنها تترقبه أيضا …
فسألتها عن عدد إخوتها وعلمت أن لها من الأخوة اثنين أحمد ومصطفى وكلاهما يصغرها أحمد بثلاثة أعوام ومصطفة بخمسة ، واسترسلت هى هذه المرة ووجهها يتلون بالسعادة لتذكرهما بأنها كانت تلعب معهم وتضربهم كثيرًا ولكن كل هذا كان قبل مرضها ...
شعرت أنى مع كل سؤال أجلب ذكرى أو ربما أمل خائب أو حلم مجهول الطريق إليه ،وأتسائل ياربى كيف لى أن أجلب سؤالًا لا أشعر بعده بالندم عليه ولا يجلب لها ضيق … يارب اجعل مجرد الحديث تخفيفًا لها …
أقنعت نفسى بأن مجرد حديثها رزق لى وسبيل بحثت عنه فلا يمكننى أن أتخلى عنه الآن ، فسألتها ذاك السؤال المعتاد فى نفسه وفى ردوده عن ماهى المهنة التى تريد أن تحصل عليها عندما تكبر ؟ وأجابت هى بأنها تريد أن تصبح معلمة اقتداءا بإحدى معلماتها التى تُدعى أسماء ..
وهنا تناولت والدتها الحديث لتخبرنى أن هذه معلمتها بالمدرسة وأن شروق تحبها كثيرًا وكذلك تبادلها معلمتها هذا الحب إلى الحد الذي يجعل شروق تشعر بأنها والدتها وليست معلمتها وحسب …
عاودت الدعاء جهرًا لها بالشفاء ،وسألتها ماذا يمكننا أن نفعل سويًا وقبل أن أًمهلها الفرصة لتجيب اقترحت أن عليها أن تقص على قصة تعلمها لكنها امتنعت وأعادت طلبى على فامتنعت ،فصمتت وأشاحت بوجهها عنى … وعبثت أنا برأسى باحثة عن قصة أخبرها إياها لكنى فشلت فقررت معاودة الحديث …وسألتها أن تخبرنى بشئ أجلبه لها فى الزيارة القادمة لى فرفضت ،فألححت وبدأت أطرح عليها بعض البدائل من العرائس وألعاب البنات المنتشرة لكنها رفضتها جميعا ثم صمتت ..
وفجأة سألتنى إذا كان أى شئ ستطلبه سأجلبه لها ،فأجبتها أنه بالطبع وانتظرت للحظة حتى تخبرنى لكن فى هذه اللحظة عبثت فى رأسى الكثير من الأشياء التى أتوقع أن تطلبها وكيف سأحضرها لها ..
فقالت كتابا ،أريد كتابًا عن سيدنا أبوبكر ،فتعجبت وسألتها ولم هو تحديدًا فابتسمت وأجابتنى أنها كانت تسمع عنه من معلمتها فأحبته وتود أن تعرف عنه أكثر …
ثم سألتنى والدتها عن الساعة فإذا هى الرابعة وكان هذا موعد جلسة الكيماوى لها وموعد انصرافى وافترقنا على أن أجلبه لها فى المرة القادمة وأخذت هاتف والدتها لأفى بوعدى لكن من حينها لم تُجب على ولازلت أحمل ذاك الكتاب معى ..
لكنى على الأقل حققت ما هو أهم وحصلت على ما فعلت كل هذا لأجله ،حصلت على بسمتها ..
نهضت من مكانى وتأملت ما حولى وتسائلت ماذا تخبئ كل تلك الأرواح بداخلها ؟!
وحملت حقيبتى وبسمتها ورحلت ...