التقينا في محطة الرمل في انتظار قدوم الترام، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي نلتقي فيها هناك، لكن تلك المرة كان بها شيءٌ ما غريباً، تسدل شعرها على كتفها، ترتدي فستاناً هادئاً لونه أخضر تنتشر عليه عدة فراشات مرسومة وملونة بالأبيض ووردتين تتوسطانه لونهما قرمزي، وحذاءها الأحمر كان ملفت للنظر، أخذني عبير عطرها نحو البحر وكأننا ألتقينا هناك من قبل.
حاولت أن أجذب انتباهها إليَّ .. مرة أخذت اقرأ في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين بصوت مرتفع كي أبدوا أمامها مثقف، لكنها لم تنتبه لي .. مرة أغلقت الكتاب وأخذت أردد شعراً لكنها لم تنتبه .. ومحاولات أخرى فشلت في إثارة انتباهها كمحاولاتي في الأيام الماضية، لكني كنت أشعر أنها تعي ما أفعله من أجلها.
وأخذنا الترام ونسيت إلى أي قبلة سأولي وجهي، ونسيت المكان الذي نويت أن أقصده، جلسنا بجانب بعضنا، تطلّ هي من خلال النافذة الزجاجية والترام يشق طريقه وسط شوارع الاسكندرية، وبينما هي كانت شاردة الذهن، سألتها ولم تسمعني فكررت سؤالي بعد أن لامست كتفها بأحد أصابعي بخفة فالتفتت إليَّ وعينيها الزرقاوتين تسرق السؤال من ذاكرتي بحرفية، شعرت بأن أجزائي تتفتت، والكلمات ظلَّت عالقة على شَفتيِ، وقلبي صار يخفق بسرعة لم أشهدها عليه من قبل رغم معرفتي الجيدة به...
سألتني: "انت بتقول حاجة؟".
أحسست بأن الفرصة قد سنحت كي أتكلم معها، فقلت لها متمتماً بلغةٍ أحببت أن أتحدث بها معها ..
"وما فائدة الكلام إن كانت عيناكِ تقول كل شىء ..
وما فائدة الشمس إن كانت لا تأتي بنورٍ إلا حينما تلوحين لها لتشع نورها ..
أعلم أنكِ السبب في إنتصار الثورة البلشفية، في وضع قوانين الجاذبية
فكيف يمكن للغة أن تصفك بألفاظ قد تتناسب مع أخريات
إنكِ تحتاجين إلى لغةٍ لتصفكِ أنتِ فقط، ثم تنتهى ..
بحق السماء ما فائدة كل شىءٍ هنا وأنتِ هناك".
احمرت وجنتيها ولم تنبس بكلمة واحدة، فقط عادت تطل من النافذة ثانيةً وهي تعض على شفتيها خجلاً، أما أنا فاكتفيت بما حققته واسترحت إليها كفكرة.
شعرت أن الترام لن يتوقف وأنني سوف أبقى بجانبها للأبد، راضياً بوجودي فقط بجانبها، نتنفس نفس الهواء سوياً، لكن خيبت أملي البسيط حين جاءت محطة "كامب شيزار" فاستأذنتني للنزول وهي تقول لي: "سعاد"، وقفت لها وانا ألقف الكلمات من داخلي الممتلىء "وانا يحيى"، لوحت لي بيدها وعلى وجهها إبتسامة غرقت فيها حتى وصلت لنهاية خط الترام، فتذكرت هناك أني كنت أقصد محطة "كامب شيزار" أيضاً.
عدت ثانية في الاتجاه المضاد لكني لم أجدها، وصرت أجلس كل يوم في نفس الموعد في محطة الرمل كي أراها لكنها لا تأتي ابداً.
ظللت أحدث نفسي بأسف:
"كانت تمر من هنا وتجلس بجانبي .. فماذا جد كي لا تجيء إلى هنا ثانيةً؟!
على المرء دائماً أن يُمسك بتلك الجماليات التي تبرق للحظة أمامنا وترحل.
فهي لن تنظر أحداً، وخطأي الوحيد أني لم أُمسك بسعاد حينما إبتسمت لي".
ربتني عجوز على كتفي وهو يقول: واحد بس يقدر يساعدك، واحد دايماً بيساعدني لما أحتاج حاجة.
سألته: مين؟
العجوز: موسى.
سألته: موسى مين؟
العجوز: معرفش .. ومش مهم أعرف، لكنه حد بيساعدني دايماً على المشي، ولما بقع بيرفعني بشويش ويقولي "سلامتك"، مش محتاج أكتر من كدة.
سألته وتبدو الدهشة على وجهي: في كل مرة بيكون نفس الشخص؟
العجوز: في كل مرة بيكون موسى.
ضحكت وقلت له ساخراً: جايز يكون وهم!
كانت التجاعيد التى تملأ وجهه تشع نوراً ويبدو هائماً والكلام يخرج منه على مهل: موسى عمره ما يكون وهم، لو موسى وهم يبقى انت كمان وهم وانا وهم .. مش ممكن أبداً النسمة الخفيفة اللي بتطيب جروحي، والكلمة اللي بتروي قلبي وتردله الحياة، واللمسة اللي بتأكد وجودي، مش ممكن اللي يعمل كل ده يبقى وهم .. ميصحش نقول على أملنا الوحيد في الحياة إنه وهم، موسى هو الحاجة الوحيدة الحقيقية في حياتنا .. موسى هو الحقيقة نفسها.
فقلت متأثراً بكلماته التي أخترقتني كشعاع ضوء خفيف، وكنت وقتها بحاجة إلى من يبث بداخلي الأمل من جديد بأن أجد سعاد .. فسألته متلهفاً: ألاقي موسى فين؟!
العجوز: لما تقع.
فقولت متسائلاً: متأكد إني لو وقعت هيجيني؟!
فرد العجوز وهو يُمسك بشنطته ليرحل: مش متأكد بس جرب.
وتركني وحيداً متسائلاً عن ماهية هذا الوقوع، وكيف يمكن أن أقع؟!
وظللت في محطة الترام منتظراً قدوم سعاد وموسى والناس من حولي يكبرون وجدران البيوت تكبر أيضاً من حولي، والترام لازال على حالته يمر من هنا ولا جديد يحدث هنا، غير أن الزمن يمر بطيئاً جداً في الانتظار.
-
أحمد عبد العليم سرحان"لا أُعرف نفسي كي لا أُضيعها"
نشر في 06 شتنبر
2017 .
التعليقات
لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... ! تابعنا على الفيسبوك
مقالات شيقة ننصح بقراءتها !
عبد الله نجيب
منذ 6 سنة
هل أصبحتُ ثورًا في طاحونة؟!
خرجت من رواية "طعام .. صلاة .. حب" بمعنى لا أظنه معناها الرئيسي الذي قد يصل لأي أحد يقرأها ، إلا أنني قد أكون أخذت ما ينقصني ..لاحظت بطلة الرواية تحب السفر فسافرت وجابت البلاد ، تحب الطعام فتأكل....
مقالات مرتبطة بنفس القسم
عبد الرقيب البكاري
منذ 3 شهر
الخلاص
الخلاصقصة قصيرةفي ليلة موحشة وفي إحدى القرى التي لا يكترث لمآسيها أحد وفي سنوات الحرب واليأس كان الليل يوشك أن يرحل بعد عناء طويل عندما سقط رأس الأم على صدر زوجها من التعب والإرهاق ، ثلاثة أيام بلياليها وهي تضع
منى لفرم
منذ 4 شهر
حسن غريب
منذ 4 شهر
وتوالت الذكريات
قصة قصيرة /وتوالت الذكريات بقلم:حسن غريب أحمدكاتب وناقد مصر__________________________________قالت له ذات يوم : ولدى لا تغادر .. أنت جسر البيت .. نظر إلى الأفواه الجائعة فى الخارج .. كانت حبات المطر ترسم شكلاً ما فوق النافذة .. المدفأة تصدر شخيراً مخيفاً
أشرف رضى
منذ 5 شهر
nessmanimer
منذ 9 شهر
soumia kartit
منذ 10 شهر
soumia kartit
منذ 1 سنة
آلاء غريب
منذ 1 سنة
Mais Soulias
منذ 1 سنة
د. يـمــان يوسف
منذ 1 سنة
Rim atassi
منذ 1 سنة
آلاء غريب
منذ 2 سنة
عزة عبد القادر
منذ 2 سنة
وليد طه
منذ 2 سنة
رسالة حب خائفة
قصة قصيرة جلس أمام مكتبه يعيد قراءة الرسالة التى انتهى من كتابتها للمرة العاشرة عله يجد ما يمكن أن يحتاج لتعديل أو تبديل وفى الحقيقة هو فى كل مرة يقرأها لا تواتيه الشجاعة أن يرسلها فيتردد ويعيد قراءتها مرة أخرى
عصام
منذ 2 سنة
ماذا أرى
غابت الشمس، و غاب معها احساسي بحقيقة الأشياء، هناك نوع من اللهفة يسيطر علي كلما اقترب المغيب، تلك اللحظة حينما تمتد يد الغيب لتضع ذلك المنظار على عيني، فتبدأ مظاهر الأشياء بالتبدل، أو لربما تعود للتشكل بهيئتها الحقيقية التي
مريم غربي
منذ 2 سنة