محطة الرمل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

محطة الرمل

قصة قصيرة "إهداء إلى روح سعاد حسني".

  نشر في 06 شتنبر 2017 .

التقينا في محطة الرمل في انتظار قدوم الترام، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي نلتقي فيها هناك، لكن تلك المرة كان بها شيءٌ ما غريباً، تسدل شعرها على كتفها، ترتدي فستاناً هادئاً لونه أخضر تنتشر عليه عدة فراشات مرسومة وملونة بالأبيض ووردتين تتوسطانه لونهما قرمزي، وحذاءها الأحمر كان ملفت للنظر، أخذني عبير عطرها نحو البحر وكأننا ألتقينا هناك من قبل.
حاولت أن أجذب انتباهها إليَّ .. مرة أخذت اقرأ في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين بصوت مرتفع كي أبدوا أمامها مثقف، لكنها لم تنتبه لي .. مرة أغلقت الكتاب وأخذت أردد شعراً لكنها لم تنتبه .. ومحاولات أخرى فشلت في إثارة انتباهها كمحاولاتي في الأيام الماضية، لكني كنت أشعر أنها تعي ما أفعله من أجلها.
وأخذنا الترام ونسيت إلى أي قبلة سأولي وجهي، ونسيت المكان الذي نويت أن أقصده، جلسنا بجانب بعضنا، تطلّ هي من خلال النافذة الزجاجية والترام يشق طريقه وسط شوارع الاسكندرية، وبينما هي كانت شاردة الذهن، سألتها ولم تسمعني فكررت سؤالي بعد أن لامست كتفها بأحد أصابعي بخفة فالتفتت إليَّ وعينيها الزرقاوتين تسرق السؤال من ذاكرتي بحرفية، شعرت بأن أجزائي تتفتت، والكلمات ظلَّت عالقة على شَفتيِ، وقلبي صار يخفق بسرعة لم أشهدها عليه من قبل رغم معرفتي الجيدة به...
سألتني: "انت بتقول حاجة؟".
أحسست بأن الفرصة قد سنحت كي أتكلم معها، فقلت لها متمتماً بلغةٍ أحببت أن أتحدث بها معها ..
"وما فائدة الكلام إن كانت عيناكِ تقول كل شىء .. 
وما فائدة الشمس إن كانت لا تأتي بنورٍ إلا حينما تلوحين لها لتشع نورها .. 
أعلم أنكِ السبب في إنتصار الثورة البلشفية، في وضع قوانين الجاذبية
فكيف يمكن للغة أن تصفك بألفاظ قد تتناسب مع أخريات 
إنكِ تحتاجين إلى لغةٍ لتصفكِ أنتِ فقط، ثم تنتهى .. 
بحق السماء ما فائدة كل شىءٍ هنا وأنتِ هناك".

احمرت وجنتيها ولم تنبس بكلمة واحدة، فقط عادت تطل من النافذة ثانيةً وهي تعض على شفتيها خجلاً، أما أنا فاكتفيت بما حققته واسترحت إليها كفكرة.
شعرت أن الترام لن يتوقف وأنني سوف أبقى بجانبها للأبد، راضياً بوجودي فقط بجانبها، نتنفس نفس الهواء سوياً، لكن خيبت أملي البسيط حين جاءت محطة "كامب شيزار" فاستأذنتني للنزول وهي تقول لي: "سعاد"، وقفت لها وانا ألقف الكلمات من داخلي الممتلىء "وانا يحيى"، لوحت لي بيدها وعلى وجهها إبتسامة غرقت فيها حتى وصلت لنهاية خط الترام، فتذكرت هناك أني كنت أقصد محطة "كامب شيزار" أيضاً.
عدت ثانية في الاتجاه المضاد لكني لم أجدها، وصرت أجلس كل يوم في نفس الموعد في محطة الرمل كي أراها لكنها لا تأتي ابداً.
ظللت أحدث نفسي بأسف:
 "كانت تمر من هنا وتجلس بجانبي .. فماذا جد كي لا تجيء إلى هنا ثانيةً؟!
على المرء دائماً أن يُمسك بتلك الجماليات التي تبرق للحظة أمامنا وترحل.
فهي لن تنظر أحداً، وخطأي الوحيد أني لم أُمسك بسعاد حينما إبتسمت لي".
ربتني عجوز على كتفي وهو يقول: واحد بس يقدر يساعدك، واحد دايماً بيساعدني لما أحتاج حاجة.
سألته: مين؟
العجوز: موسى.
سألته: موسى مين؟
العجوز: معرفش .. ومش مهم أعرف، لكنه حد بيساعدني دايماً على المشي، ولما بقع بيرفعني بشويش ويقولي "سلامتك"، مش محتاج أكتر من كدة.
سألته وتبدو الدهشة على وجهي: في كل مرة بيكون نفس الشخص؟
العجوز: في كل مرة بيكون موسى.
ضحكت وقلت له ساخراً: جايز يكون وهم!

كانت التجاعيد التى تملأ وجهه تشع نوراً ويبدو هائماً والكلام يخرج منه على مهل: موسى عمره ما يكون وهم، لو موسى وهم يبقى انت كمان وهم وانا وهم .. مش ممكن أبداً النسمة الخفيفة اللي بتطيب جروحي، والكلمة اللي بتروي قلبي وتردله الحياة، واللمسة اللي بتأكد وجودي، مش ممكن اللي يعمل كل ده يبقى وهم .. ميصحش نقول على أملنا الوحيد في الحياة إنه وهم، موسى هو الحاجة الوحيدة الحقيقية في حياتنا .. موسى هو الحقيقة نفسها.
فقلت متأثراً بكلماته التي أخترقتني كشعاع ضوء خفيف، وكنت وقتها بحاجة إلى من يبث بداخلي الأمل من جديد بأن أجد سعاد .. فسألته متلهفاً: ألاقي موسى فين؟!
العجوز: لما تقع.
فقولت متسائلاً: متأكد إني لو وقعت هيجيني؟!
فرد العجوز وهو يُمسك بشنطته ليرحل: مش متأكد بس جرب.

وتركني وحيداً متسائلاً عن ماهية هذا الوقوع، وكيف يمكن أن أقع؟!
وظللت في محطة الترام منتظراً قدوم سعاد وموسى والناس من حولي يكبرون وجدران البيوت تكبر أيضاً من حولي، والترام لازال على حالته يمر من هنا ولا جديد يحدث هنا، غير أن الزمن يمر بطيئاً جداً في الانتظار.



   نشر في 06 شتنبر 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا