لديَّ أصدقاءٌ كثيرون يعملون في الخليج، وقد تعوَّدتُ أن أقابلهم كل عامٍ عندما يزورون مصر لقضاء إجازتهم السنوية .. وقد تصادف أن يكون موعد إجازة أحد هؤلاء الأصدقاء الأعزاء متزامنًا مع شهر رمضان الكريم، فاقترح صديقي أن يكون لقاؤنا غير تقليدي هذا العام على بحيث نلتقي على مائدة السحور في إحدى ليالي رمضان الصيفية .. قررنا أن نُعَمِّم الفكرة أكثر وأن نطرحها على زملاء الجامعة القدامى، فرحَّب بعضهم وتحمس للفكرة الجديدة التي لم نُجَرِّبها من قبل .. حدَّدنا يوم المقابلة وتَبَقَّى أن نختار المكان الذي سنتلاقى فيه لكي نتسحَّر .. اقترح صديقنا أن يكون اللقاء عند أحد المقاهي القريبة من حي جاردن سيتي ثم ننطلق بعدها إلى "عم محروس بتاع الفول" – هكذا قال صديقي - والقريب من المقهى، ووَعَدَنا صديقي أن يكون الفولُ "حكايةً" والمكانُ مفاجأةً – على حد تعبيره.
تعجَّبتُ في أول الأمر من اختيار جاردن سيتي كمكانٍ للقاء، فمن المعروف لأي مواطنٍ قاهريّ أن جاردن سيتي من أهدأ الأحياء بالقاهرة في الليل – إن لم يكن أهدأها على الإطلاق – لدرجة أن الناس يخافون أن يسيروا في شوارعها ليلاً من شدة هدوئها .. وبالتالي لم أكن أتخيل أن تتواجد أي عربات فول هناك ليلاً !.. كنت أشعر بالدهشة من الاقتراح الغريب، وفي نفس الوقت كان لديَّ من الحماس والفضول ما جعلني أوافق على الفور نظرًا لرغبتي الدائمة في تجربة كل ما هو جديدٍ وارتياد أماكنَ لم أزرها من قبل.
تقابلنا في اليوم المحدد عند المقهى المُتَّفَق عليه .. وبعد حديث الذكريات - الذي لا نملُّ من تكراره كلما تقابلنا – غادرْنا المقهى وتوجَّهْنا لنبدأ رحلة السحور المقدسة .. مشينا سويًّا في شوارع جاردن سيتي الهادئة وأنا أتطلع في استمتاعٍ إلى البنايات العتيقة التي لم تَطُلْها يد العمران الفوضوي الحديث كأغلب أحياء القاهرة الأخرى .. لم نقابل إنسِيًّا أثناء سيرنا وكأننا نمشي في مدينةِ أشباحٍ لا بشر فيها .. سَأَلْنَا صديقنا إن كان متأكدًا من وجود عربة الفول المزعومة تلك، فأكَّد أنها موجودةٌ وقد أكل عندها ذات مرةٍ .. ظللنا نمشي لدقائق أخرى حتى ظهرت لنا من بعيدٍ أضواءٌ متلألئةٌ في نهاية الشارع .. اقتربنا أكثر فبدأنا نسمع صوت جلبةٍ ونرى أشباحًا لا ملامح لها تتحرك هناك .. استكملنا سيرنا إلى مصدر الأضواء حتى اتضحت الصورة كاملةً .. كان الشارع مزدحمًا بشدةٍ، وكانت موائدُ كثيرةٌ متراصةً على جانبي الشارع ومكتظةً بالجالسين عليها، بين مجموعاتٍ تأكل في استمتاعٍ ومجموعاتٍ أخرى تنتظر في ترقُّبٍ وشغفٍ واضِحَين .. بحثنا عن مائدةٍ شاغرةٍ كي نجلس عليها فلم نجد .. كان هناك عددٌ من الواقفين المنتظرين لدورهم مماثلٌ لعدد الجالسين إن لم يكن أكثر .. اتقفنا على اتباع استراتيجيةٍ ذكيةٍ كي نظفر بإحدى الموائد، فقمنا بتوزيع أنفسنا بحيث يقف كل واحدٍ منا مترقبًا على مقربةٍ من إحدى الموائد التي أوشك الجالسون عليها من الانتهاء من طعامهم .. بعد دقائق سمعنا أحدَ أصدقائنا ينادي علينا .. رأيناه وقد انقض على المائدة التي كان يقوم بمراقبتها .. لقد نجحت الخطة وفزنا أخيرًا بمائدةٍ .. جلسنا على المائدة وبدأنا في الإعداد للمهمة التالية: طلب الأكل الذي سنأكله.
رحت أتأمل المكان من حولي بعد أن ضمنَّا مائدةً للجلوس .. كان هناك محلٌ صغيرٌ – إن جاز أن نطلق عليه "محلاً" – قائمٌ في زاويةٍ صغيرةٍ لإحدى البنايات القديمة، وكان بلا سقفٍ أو جدرانَ تحُدُّه باستثناء البناية نفسها .. كان المحل عبارةً عن: "قِدْرةِ فول"، وموقدٍ، ومنضدةٍ يتم إعداد الأطباق عليها، ومنضدةٍ أخرى عليها أطباق البيض وأدوات الطعام من أطباق وملاعق وزجاجات الزيت وعلب السمن وبرطمانات المخلل الزجاجية .. وكان يقف في منطقة إعداد الطعام هذه مجموعةٌ من الشباب الذين يعملون بكل هِمَّةٍ ونشاطٍ على إعداد الطلبات التي يمليها عليهم مجموعةٌ أخرى من الشباب الذين يَجْرُون – فعلاً لا مجازًا – بين الموائد في سرعةٍ وخفةٍ لتلقي طلبات الزبائن والعمل على إحضارها لهم .. كانت خلية نحلٍ مبهرة التنظيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. ما يقرب من عشر أفرادٍ فقط يعملون على خدمة أكثر من مائتي زبون !.
سألت نفسي في دهشةٍ: "كيف لهذا العمل أن ينجح لدرجة أن يَفِدَ إليه الناس أممًا من جميع الأماكن على الرغم من قيامه في منطقةٍ هادئةٍ لا يُسْمَعُ فيها "صرِّيخ ابن يومين"؟!.. كيف لعربة فولٍ بسيطةٍ أن تجذب كل هؤلاء الجالسين والواقفين من حولي؟! .. ما الذي دعا صاحب هذه المنظومة أن يختار مقر مشروعه في آخر مكانٍ يمكن أن يخطر في بال أي "بائع فول مدمس"؟!".
ثم التفتُّ إلى صديقي وسألته في انبهارٍ: "أين عم محروس بتاع الفول؟" .. فأشار إلى شخصٍ – يقترب من الخمسين من عمره - يقف وسط "المعمعة".
كان (عم محروس) يقف في وسط الشارع وفي يده رِزمةٌ ماليةٌ من جميع الفئات بدءًا من الخمسة جنيهات وحتى المائتي جنيهًا .. كان يتوجه إلى الزبائن الذين انتهوا من طعامهم لكي يأخذ منهم حساب ما أكلوه، ثم يتوجه إلى آخرين يستمع إلى شكواهم من تأخر إحضار طلباتهم فيصرخ مناديًا الشاب المُكَلَّف بإحضار طلبات صاحب الشكوى آمرًا إياه بكل حزمٍ بسرعة إنهاء مهمته، فيجري الشاب مسرعًا لتنفيذ الأمر وهو يكاد أن ينكبَّ على وجهه .. بعدها يصرخ "عم محروس" في فريق إعداد الطعام كي يسرعوا.
نادى أحد أصدقائنا على (عم محروس) فحضر إلينا دون إبطاءٍ .. أملى إليه بطلباتنا فابتسم ثم نادى على أحد الشباب العاملين معه ونقل إليه طلباتنا فأسرع الشاب إلى "قسم إعداد الطعام" كي يبلغهم بها.
مال عليَّ صديقي وقال: "(عم محروس) ده مدير مشروع بحق وحقيقي".
ظللتُ للحظاتٍ أتدبر الكلمة التي قالها لي صديقي فوجدت أنها واقعيةٌ تمامًا .. فـ (عم محروس) بالفعل تتوفر فيه جميع صفات مدير المشروع العصري الناجح .. فهو رَجُلٌ يدير مجموعةً من الأفراد المُكَلَّفِين بمهامٍ محدَّدةٍ، يعرف كل فردٍ منهم ما هو مطلوبٌ منه تنفيذه ويؤدون مهامهم في سرعةٍ ومهارةٍ .. لا ينتظر بعيدًا حتى تتفاقم المشكلة وتستفحل فيكون من الصعب حلها، بل يتواجد وسط الخلية فيكون بذلك مُراقِبًا لكل صغيرةٍ وكبيرةٍ تحدث من حوله، فإذا ما حدث من فريق عمله أي تهاونٍ ولو بسيطٍ فإنه يُقَوِّمَهم على الفور حتى لا يختل النظام في خلية النحل التي يعملون بها، فيكون بذلك قادرًا على حل أي مشكلةٍ فور حدوثها من خلال تواجده في قلب الحدث .. يسيطر ماليًا على حسابات العمل مما يقلل من احتمالات الفساد أو التلاعب من العاملين معه .. يقوم بنفسه على خدمة العملاء بكل بساطةٍ وتواضعٍ .. يستمع بصدرٍ رحبٍ إلى شكواهم ويعمل على حلها دون تأخيرٍ .. هذا الرجل نجح بأقل الإمكانات في صنع مشروعٍ دائمٍ يُدِرُّ عليه دخلاً محترمًا .. يكفي هذا الرجل نجاحًا أن جعل من مشروعه نقطة جذبٍ لمنطقةٍ يبدو ظاهريًّا أنه من المستحيل أن ينجح فيها مشروعٌ مثل مشروعه.
باختصارٍ: هذا الرجل – على الرغم من بساطته - نموذجٌ ناجحٌ يُقتدى به لمدير المشروع في أي منظومةٍ وفي أي مكانٍ .. هكذا أدركتُ إجابة الأسئلة التي سألتها لنفسي منذ دقائق.
شَرَعْنَا في الأكل بعد أن وُضِعَتْ أمامنا أطباق الفول بالزبدة والفول بالزيت والبيض "الأومليت" بالزبدة .. شعرت بعد أول قضمةٍ من طبق الفول الذي أمامي أنني لم آكل فولاً من قبل .. ما هذه الحلاوة وما هذا الإبداع؟ .. التهمنا جميعًا طعامنا في دقائقَ قليلةٍ مُنتَشِين من حلاوة الأكل .. قمنا ليجلس مكاننا مجموعةٌ من المنظرين دورهم بفارغ الصبر، وقبل أن نرحل عن المكان أصررت أن أذهب لـ (عم محروس) كي أشكره.
عُدْنَا أدراجنا فشعرنا كأننا انتقلنا آنيًّا إلى شوارع جاردن سيتي الهادئة مرةً أخرى .. وَدَّعْنَا بعضنا بعضًا وقبل أن نفترق لم أنسَ أن أشكر صديقي على هذه السهرة الجميلة وهذا السحور المبهر وعلى تعريفي بسكة (عم محروس) .. بعدها نظرتُ ورائي نظرةً أخيرةً إلى هناك حيث كُنَّا منذ لحظاتٍ وقد أدركتُ – ولم يَزَلْ طعم الفول في فمي لم يذهب - أن هذه الزيارة بكل تأكيدٍ لن تكون الأخيرة.
التعليقات
المهن التقليدية و السوق التجاري هي أفضل الأماكن لتعلم دروس ريادة الأعمال
بالمناسبة انا زبون دائم لمحورس 3 سنوات مضت .
شكرا إسلام الرسالة وصلت