الإنسان والحرب - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الإنسان والحرب

  نشر في 23 شتنبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 23 شتنبر 2023 .

هنالك سؤال ما انفك يتردد على ذاكرتي كلما حدقت إلى التاريخ وهو سؤال نابع من أحداث التاريخ الفظيعة المدججة بالمأساة والبشاعة وهذا السؤال واحد في الأصل لكنه يصاغ على أشكال متعددة ومتباينة يرمي إلى فكرةٍ واحدة. هذا السؤال هو هل الحرب متأصلة في الأعماق الدفينة للإنسان؟ هل يتطلع الإنسان إلى ارتكاب العنف؟ ماهي غريزة التدمير التي ذكرها سيغموند فرويد؟ هل بطريقةٍ أو بأخرى يمكن اعتبار الإنسان قاتل بالفطرة؟ هل ثمة دوافع بيولوجية فطرية في الإنسان تبعث وتعزز بداخله الإقدام على قتل وتدمير وتهميش الأشخاص أم أن الحرب مجرد صناعة ابتكرتها بعض الممارسات غير الأخلاقية في بيئات مريضة؟

للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعود لتعريف الغريزة. يرى داروين الغريزة أنها مجرد عمل لا يستند على أي خبرة للقيام به ولا فهم الغرض من تنفيذه. اما فرويد فيشير إلى الغريزة على أنها قوة نفسية راسخة تصدر من صميم الكائن العضوي وترجع أصلا من حاجات البدن التي لا يستغني عنها الكائن الحي وأن هذه الغريزة تمر بعملية من النمو قبل أن تصبح نشطة في الإنسان البالغ. لا اتفق مع هذا النقطة الأخيرة، فالحاجة إلى الأكل والشرب لا تمر عبر مراحل من النمو، فالشخص في حاجة إلى الطعام منذ أن انجبته أمه حتى يوم وفاته. يرى كيوبي أن الغريزة أمر موروث لكن قابل للتعديل وهي عبارة عن ثلاث مستويات: مستوى أولي، ويضم التنفس والشرب والأكل، مستوى ثاني، ويضم الغريزة الجنسية، ومستوى ثالث يضم غريزة الحركة والنوم. ينطلق دائما فرويد من منطق أن الحياة عبارة عن ثنائيات تتصارع باستمرار، يؤكد في كتبه على وجود صراع مستمر في عقل الإنسان بعيد في مكان غائر يدعى "اللا وعي" وهذا الصراع ليس بين الفرد وذاته فقط إنما صراع بين البشر، مصدر هذا الصراع غريزي متجذر في الإنسان منذ ولادته. عندما ننظر إلى الحياة كصراع بين شيئيان سنعطي مبررا للعنف والحرب وسنغير من طبيعتنا لتقبل الصراعات كنتيجة حتمية للتواصل مع الآخرين وبالتالي سنحول المجتمع إلى مسرح لهذه الصراعات طالما نؤمن بأن الحرب موجودة في التكوين الغريزي للبشر ولا مفر منها. يعطي كلام فرويد تبرير للحرب والذي يعد ما قاله مجرد كلام لا يمكن التأكد من صحته فهنالك نخبة من العلماء رفضوا الغريزة ومنهم آشلي مونتاجو التي تنفي وجود أي دليل على سلوك غريزي بحت لدى الإنسان فكل شيء تم احتواؤه وتعلمه من التجارب الحياتية وبذلك فأن العنف والشر وارتكاب الجريمة هي أمور مكتسبة لا يمكن ارجاعها واختزالها في الجينات والطبيعة البشرية.


غريزة التدمير:

استخدم فرويد مصطلح غريزة الموت عام ١٩١٤ م عندما نشر كتابه "ما وراء مبدأ اللذة" ويرمز هذا المصطلح إلى التوق الموروث لدى جميع الكائنات الحية للعودة إلى الحالة الجامدة الأولى حيث لا وجود للحياة. تعمل غريزة الموت على خفض التوتر والقلق في جعل الكائن يدرك أن الموت وعدم الوجود أحد الحلول المناسبة للتخلص من التوتر. تظل غريزة الموت خامدة في الداخل وتظهر إلى الخارج بوصفها غريزة التدمير وأن لم تحقق غاياتها في الخارج، ستتحول إلى الداخل وتنجح في القضاء على الفرد، ومن ثم يمكن أن نفترض أن الفرد يموت بسبب هذا العدوان الموجه إلى الداخل. يقول فرويد عن الحرب أنها مجرد تلهية لغريزة التدمير بتوجيهها إلى العالم الخارجي. وبهذا فأنه يعطي الميل إلى الحرب تبريرا بيولوجيا وأننا كبشر لا نستطيع إنكار الحرب، إذن جينيا نحن دعاة حرب ويحوي كلا منا رغبة في شن الغارات والقاء القنابل والمتفجرات فوق رؤوس أناس لا نعرفهم.  

يقول مارتن فان كريفلد في كتاب "ثقافة الحرب" أن الحرب وجدت لتستمر إلى الأبد وكل مظاهر العنف تنجم عن الطبيعة البشرية. بجانب غريزة الموت التي تتحول إلى غريزة التدمير للخارج هناك غريزة الحياة وهي الغرائز الجنسية والتي تتمثل في إبقاء الحياة لأطول مدة ممكنة وهي تعمل كقوى مكافحة لغريزة الموت وهنا يتجلى الصراع: فالحياة صراع بين غريزة الموت التي تحاول إعادة الفرد إلى حالة من الجمود واللا حركة وبين غريزة الحياة التي تحاول حماية الفرد وإبقائه على قيد الحياة. يعتقد لاكان المفكر الفرنسي أن العدوان ينجم عبر دخول الفرد للأوساط الاجتماعية مما يتولد لديه مشاعر الحسد والبغض والتي ستتحول إلى قوى تدميرية خارجية كما أن الموت هو حالة من التفتيت والتقطيع.

أنني اندد، بل أرفض بشدة فكرة أسبقية الجريمة على الوجود لطالما وجدته ادعاء زائف ومجحف في حق الإنسان، لأنه لا يمكنني تخيل أن أمي مجرمة ومن دعاة الحرب بالفطرة ليس لهذا السبب فحسب، بل لا يمكن اختزال الإنسان في مجموعة جينات تحدد ماهيته وحياته وسلوكه. فسلوك الإنسان مكتسب وغير مشتق من الجينات كما يقول ويلسون دوبزنسكي: "الثقافة غيز متوارثة جينيا، بل إنها مكتسبة بالتعلم من الآخرين. بما معناه أن الجينات البشرية قد خضعت لعاملٍ جديدٍ كلياً ليكون على سلم أولوياتها، وهو ليس بالعامل البيولوجي، أو العضوي، إنما بالثقافة" هذا صحيح فبالتربية والتعليم يمكن أن يوجه الإنسان نحو الطريق الصحيح المستقيم مثلما هو حال معظم البشر حول العالم الذين لا يرغبوا بإيذاء أي حيوان لا سيما الإنسان وبالتالي لا يمكن تبرير الحروب والجرائم واعتبارها أمرا فطريا لأنه هذا يعطي الأشخاص ذريعة لارتكاب الحروب والعنف. البيئة الاجتماعية السليمة تنتج مجتمع أخوي منظم مسالم. لذلك تنشأ الحروب عبر السياسات الإمبريالية التي تنزع لمد نفوذها وسلطانها للاستحواذ على الأراضي والموارد. الحروب اختراع بشري والسلوك العدواني أمر مكتسب ولا يمكن لوم الجينات على ذلك. غالبا تنبع رغبة التدمير والحروب من مشاعر التملك والسيطرة فالحرب هي صناعة بشرية ينميها الإعلام ووسائل الدعاية ويجري ترويجها من قبل الشركات الجشعة على مدى غير قابل للتصديق.

ننهي المقالة بما قاله كينيث بولدنغ:

"العدوانية البشرية والملكية البشرية هي نتاج النظام الاجتماعي وليست نتاج الأنظمة البيولوجية. ويجب أن تعامل على أنها كذلك"  



  • 1

   نشر في 23 شتنبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 23 شتنبر 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا