أدب منسيّ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أدب منسيّ

  نشر في 26 مارس 2017 .

في الشّمال البعيد، قبل سنتين خلف حديقة الأكاديميّة، حيثُ كانت تلتقي أشجار الأوكاليبتوس في ساعةِ العصر تُلقي بظلالها على الأرض صانعة أشجاراً أُخرى، يأتي العمّ مارسيل بعربتِه المتواضعة بخطًى ثقيلة، لا تدري أيٌ منهما يجرُّ الآخر، يتبعه ابنهُ كلاويدو الذّي اعترى وجههُ ازدراء ملحوظ وهو يسمعُ والده يأمُره أن يساعده في إخراج الدُّمى ..

التي لا زالت فنُّ تماسُكه! ، يقول العمّ مارسيل وهو يخرج ستارة حمراء مهترئة وينفض الغبار عنها

-: هذا جيّد ، لدينا وقتٌ كافٍ قبل الغروب لنقدُم فيه عرضاً!

ومالوقت الكافي إلّا عبارة عن خياطة تلك الأجزاء التي اهترءت من الدُمى.

-: أليست هذهِ الدمية قديمة جداً على أن تصنع بها عرضاً؟ إنّ عينها اليُسرى مفقودة أليس بإمكان أحدٍ أن يعرف ذلك؟ يقول كلاويدو وهو بالكاد يُمسكها من طرف فستانها الممزّق بمنتهى القرف

نظر إليها العمّ مارسيل لوهلة ثمّ قال

-: بالطّبع هذه معي منذُ عرضيَ الأوّل ربّما فقدت عينها في أحدِ عروض سيبيريا أو في أحد أنحاء برلين أو ربّما في أحد أحياء برازيليا القديمة أليس ذلك ممكناً؟

ثمّ عاود النظر إليها وأضاف

- : لا تقلق، لا أحدَ هنا ليعرف.

ما إن أتمّ كلمته حتى بدأتُ أتقدّمُ نحوه.

ألقيتُ التحيّة وسألته إذا ما كان سيقدّمُ عرضاً هنا؟ لكنّ كلاويدو قاطعني بشدّة

-: العروض التّي نقدمها للأطفال لا يُحب الآخرين سماعها.

قاطعتهُ أيضاً: حقاً؟جميل! تلك التّي يرغب في سماعها حتّى الموتى !

أشاح بناظريهِ عني وهو يلوّح لأبيه ويقول له أن يناديه إن احتاجهُ في شيء

قال بصوت ممزوجٍ بالغضب والخجل

- : أعتذرُ لك حِدّة مزاجه

قلتُ وأنا ألتقط تلك الدمية التي سقطت من يد كلاويدو

-: لا بأس أتّفهم ذلك

-: إنه يعتقد أن هذا عديم الجدوى!

نظرتُ إلى كلاويدو الذي بدا في غايةِ الذهاب

- : لاتقلق بشأنه، ما زالَ شاباً

بعد تنهيدة طويلة أطلقها العمّ مارسيل

-: لكنهُ محق! لا أحد يحبّ ما نقدمّه لا يُشاهدنا إلا الأطفال الذّين تطردهم أُمهاتهُن هذه السّاعة للقيام بالأعمال المنزليّة. لا أعلم من أيضاً

منذُ زمن لم يأتِ أحدٌ لمشاهدتي. لم يعُد أحد يرغب في سماع قصص الأطفال المتكرّرة.

-: رُبما ليس الأمرُ كذلك!

-: هذا سُخف، كلُّ ساحة مشيتُ فوقها لا زالت تحملُ جزءاً من هذهِ الدُّمى.

ومنّي أيضاً. وعربتي الصّغيرة مليئة بغبار الطُرقات لم يُلوح أحد للقائي وكذلك مغادرتي.

عرضتُ عليه أن يتقدّم لحديقة الأكاديميّة حيثُ سيكون هناك العديد من طلبة الفنون ممّن قد يجدون هذا مثيراً

بدا خائفاً ومتحمساً في الوقت نفسه كان صوتهُ يرتجف وهو ينادِي

- : كلاويدو ! كلاويدو ! تعال بسرعة سنقدّم عرضاً

ذهبتُ معه إلى حديقة الأكاديميّة التي كانت تبعدُ مئتي ياردة،

-: ليكن الحظّ رفيقي يقول مقهقهاً

كان يُمسك بتلك الدُمية كمن يُمسك بميداليّة ثمينة، أذكرُ أنها كانت الدمية الخشبية الوحيدة التي كانت منحوتة بإتقان فقد كانت ذات أنفٍ طويلة ترتدي قُبعة من الصّوف الأسود مُحاكة بعفويّة، وضعها جانباً وقال : هذه ليومٍ آخر ثمّ أسدل تلك السّتارة الحمراء ومزج الخيوط ببعضها، وعقدها بأنامله! يا لرباطة جأشه، كان قد بدا بريّ الطباع، لكنّه كان جريئاً بما يكفي

كان الطقسُ رائعاً. وكانت العصافير تسمعنا تلك المعزوفة المندّدة.

أزاح السّتار وبصوتٍ عال بدا يروي تلك الرواية عن تضحية غِريبا لوالدها إينوفا

كنتُ أسمعُ ذاك التضرُع البريء في عين كلاويدو : أيها الربّ، أرجوك اجعل هذهِ العربة تُغني، لا تترك أبي وحيداً، ساعده لكي يكونَ جديراً بالاهتمام، أو على الأقلّ اجعل له صديقٌ واحد غير هذهِ الدمى.

اقتربتُ منه وهمستُ له : والدُك فنّانٌ انظر إليه كيف تعكس الشمس صورته، ربما ودّت لو يرى القمرُ هذا أيضاً

-:إنها المرّة الخمسون رُبما وهو يتلو هذه الرواية أمامي حتى أنه بمقدوري تلاوتها غيباً، لكنني أشعر أنني أسمعها لأول مرة، إنّه قادر على أن يفتتن بها كما لو أنّه قرأها للتوّ.

إنه يروِي تلك القصص عن الأحلام التي تنتهي منتصف اللّيل، عن الكذب الذّي لهُ أنوف طويلة، عن الذئب الذي يختبئ خلف أشجار المانغوليا منتظراً تلك الفتاة ذات الرّداء الأحمر!

عن الثّعلب الذي يريد أن يصبح ملك الغابة، عن صداقة طفلٍ بشجرة، ثم هاهو يحكي عن تضحية غِريبا.

ربما ستتفاجأ إنّ أخبرتك أنه يُحب هذه القِصص أكثر من فلوبير وسالينجر وهامسُن، إنّه يُقدر هذا الأَدب شديد الزّوال، إنهُ يؤمن به، و يعرف أنه لن يكون شاعراً جيّدا من غير هذا الإرث الثّقافي

- : أرى ذلك جيّداً، ماذا عنك كلاويدو؟ هل تريدُ أن تصبح كذلك؟

-: لا أعتقد ذلك، لكنني لن أتخلّى عن هذا الفنّ، أبي يخبرني دائما أنّ لدي الكياسة والحذر الموجودة لدى سياسيّ حقيقيّ أعتقد أنه يريد مني أن أدرس العلوم السياسيّة

-: هل ستفعل؟

-: لمَ لا ؟ قد أفعل، إنها رغبتي ولكن أتعلم أمراً؟ عندما بلغتُ السادسة وسقطت سنّي كنتُ خائفاً من زيارة جنيّة الأسنان، كنتُ أرتعد وجلاً تلك الليلة لكنّه أخبرني حينها أنّها ستكون جميلة جداً كما في رواية جان كوكتو وأنّها ستقبّلني لتنمو لي سنّا أُخرى! كان الأمر محرجا وأيضا نافعاً لقد صدّقت ذلك، كما صدقت أيضاً أن بيتر بان كان يحلّق ليلاً في غرفتي تاركاً أجنحته تنعكس على الجدار، اكتشفتُ فيما بعد أن ذلك كان نبتة صغيرة وضعها أبي فيما مضى عند النّافذة، لكنني صدّقتُ ذلك في يومٍ ما وكان الأمر رائعاً.

-أتعرف مالرائع كلاويدو؟ انظر خلفك.

-لم يُصدّق كلاويدو حينها ما رآه لن أنسى تلك الدهشة التي اعتلت عينه تلك الأعينُ المُراقبة لأكثر من مئتي طالب.

- لا تتعجّب، إنه أحد الذين يعبرون بخفّة وتلمحهم سريعاً.

ما إن انتهى حتّى اعتلت أصوات الصّفير والتصفيق ما بدا غير مألوف بالنسبة لهما

- هل أعجبهم ذلك ؟ يسألُ العم مارسيل بصوتٍ آلمتهُ الحكاية..

يتقدّم الواعظ الذي كان حاضراً : منذ أمدٍ بعيد لم أرى أحدا يتحدثُ عن التضحية، ذكرني ذلك بالطقوس الروحيّة والتحدث عن نعمة الوجود، هذه حياة أخرى التمسناها معك. سيرغب الجميع أن تعرض لنا ذلك أيضا في أحد مسارح كليّة الفنون.

ها أنا ذا اليوم في طريقي لأحضرَ له عرضاً في مسرح الأوبّرا الوطنية حيثُ سيقدم عرضاً مع أنغام الأوبرا

هكذا تتشوّه الحكايات الجميلة، عندما لا تسمحُ لأحدٍ بقراءتها، ففي دور السينما عليكَ أن تمرّ بصالة الأطفال وتبكي مثل طفل برموشٍ ترتعش، كان قد أخبرني أنه من لم يقرأ من أدب الطّفل فقد فاته، الكثير والكثير من الإلهام.

منذ ذلك اليوم وهذهِ الكُتب قطع مكنوزة ترافقني باستمرار.


  • 11

   نشر في 26 مارس 2017 .

التعليقات

بسمة منذ 7 سنة
ذكرني اسلوبك في كتابة القصة ؛ بأسلوب قصص الأدب المترجم ...
دمتي متألقة ومتميزة في الكتابة ،
بالتوفيق .
1
أروى الحُسين.
يييييياه '( شُكرا بسمة
عمرو يسري منذ 7 سنة
قصة جميلة استمتعت بقراءتها
بالتوفيق :)
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا