الطَّرِيقُ إلى الجَحِيمِ. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الطَّرِيقُ إلى الجَحِيمِ.

"كانت الانسانية جريمتي التي لا تُغتفر، لأن الجهل لا يمكن أن يشفع لك بينما رقبتك عند المقصلة"

  نشر في 15 فبراير 2023 .

الحر لا يُحتمل في افريقيا الوسطى، خاصة ليلا .. لدرجة اعتقادك أن القمر الذي يتوسط السماء في ثبات ليس إلا الشمس متنكرة في زيِّه .. يا الهي ! هته حقا أحد الليالي التي اشتاق فيها لجو لندن البارد وضبابها الكثيف .. حسنا لا أنكر أني طوال حياتي في انجلترا كنت اتذمر من الجو البارد وودت لو أن كل فصول السنة صيفٌ، لكني غيرت رأيي منذ بعثتي لإفريقيا، كان بإمكاني أن أعود لبلدي في أي وقت شئت خاصة وأن الطاقم هنا الذي يضم أطباء وممرضين متطوعين من شتى البلدان مكتفي العدد، حتى مع توزيع البعض على المناطق المجاورة، بيد أني أحب عملي كثيرا وقد جئت لهنا حبا في اسكات آلام المتوجعين الذين لا يلقون يدًا تمسح دموعهم، يمكنني أن أتحمل هذا الجو الخانق من أجل هؤلاء الناس، هته هي الرسالة النبيلة للطب وهذا هو واجبي الأول، خدمة المرضى المنكوبين الذين لم يرو في حياتهم علبة دواء طبي قبل خدمة مرضى وطني الذين تتوفر لهم أجدد التكنولوجيا والمستشفيات على اتساعها، وأطباء كثر بدلي ..

لقد مرت 7 أشهر منذ وطأت قدمي هته القرية، لقد كانت أكثرها تضررًا من الحرب الأهلية، الحالة مزرية جدا هنا، الناس يتكدسون فوق بعضهم البعض كالخِرق البالية، بالكاد يأكلون، فاغرين أفواههم للموت ليخطف أرواحهم عبرها ويريحهم من هذا العذاب، الكثير من الأطفال هنا عقولهم تائهة قبل أجسادهم ولا ندري شيئًا عن أهاليهم، هل أحياء هم ام أموات؟ لا ندري من أين أتوا كالحزم أفواجًا أفواج، البعض منهم تخلت عنهم دور الأيتام التي تضررت كثيرا بسبب الحرب فلم يعد لها مقر أو وجود من الأساس .. الكل ضائع هنا ومنهار لا يبتغون شيئًا غير الموت بسرعة ومن دون ألمٍ .. فإما الموت بالرصاص أو بكتيريا السلمونيلا وكأن هته المأساة لا تكفيهم.. 

رغم كل جهودنا المتفانية لكن الأمر يزداد سوءًا، عدد المرضى في تزايد مستمر والبعض يأتي من قرى مجاورة من أجل العلاج والأكل .. لم نقدر على التحكم في تلك الفوضى العارمة إلا بصعوبة بالغة، قسمنا الاطفال لمجموعات، وعيَّنا على كل مجموعة طبيبا وعدد من المتطوعين ليعتنوا بهم، قسمنا المخيم ككل لأقسام تسمح لنا بتنظيم عملنا أكثر وإنقاذ أكبر عدد من هؤلاء المعطوبين وحتى القادمين من أماكن أخرى طالبين المأوى والمأكل... وبحلول الشهر التاسع عادت الحياة تدب شيئًا فشيئًا في حشائش السافانا.

لم أكن وحدي قائما على هذا الخراب أحاول كنس ركامه ولكن شعرت بفخر الإنجاز، حين قَدِمنا لهته القرية كانت مجرد سرح مدمر تماما، الجثث المتفحمة منثورة كالزرع، والفزع يسكن والأجساد المجوفة التي نجت من المحرقة لتواجه مصيرًا آخر أكثر هولا، الآن بدأت السماء التي كانت ترتدي الرمادي بفعل الأدخنة تتحول للونها الأزرق البهي الطبيعي والأعشاب تنمو في خجل تحت أقدمنا بعدما كانت تختبئ تحت الأرض خوفا، وعادت الأرواح للأجساد التي هجرتها وعاد بريق عيونها ..رغم أن الوضع لا يضاهي أصغر بلدة في الدول المتطورة ولكنه كان النعيم بالنسبة لهم ..

كان النعيم هنا، على عكس مناطق أخرى لازالت النار تأكلها، الكثير من القرى الأخرى -الغربية خاصة- قد توارت خلف رمادها تنظر قدومنا لننفضها، وكنت أول المتطوعين لتلبية نداء الانسانية رغم ان الجميع تحاشى الذهاب، كون المنظمات العالمية حذرتنا من دخول المناطق الغربية لأنها خطرة وغير محمية فهي مركز الحرب والمجموعات المسلحة ... اقترحت ان ينتقل بعضنا إلى هناك للمساعدة لكن الجميع أحجم فما كان لي سوى البقاء والانصياع لرأي الأغلبية الساحقة، الى أن اتى الينا أحد السكان المحليين يرجو النجدة ، فله صبية وأقارب في القرى الغربية، والذين تعرضوا لإصابات متفاوتة وخطرة ،كنت مستعدا للذهاب معه حتى لو عنى ذلك التمرد أو حمل عبء آلاف الاشخاص وحدي، ولكن في النهاية نحن جميعا غادرنا أهالينا وتركنا خلفنا تلك الحياة الرغيدة من أجل انقاذ الأرواح، حتى لو عنى ذلك الموت أثناء تأدية واجبنا، لهذا فقد تطوع البعض للذهاب معي ..

كانت الطريق طويلة لهناك، طريق جرداء غير معبدة لا تحمل أي معلم يثبت أنك قد تحركت من مكانك فعلا أو لأي الاتجاهات أنت تذهب ، يمكنك أن ترى على طولها حتى الافق الخطوط الأثيرية للصهد التي تربط الأرض بالسماء ، كنا داخل السيارة على وشك أن نشوى ونقدَّم وجبة دسمة للأسود التي كنا نلمحها كل بضع كيلومترات تراقبنا بعيونها الحادة .. لقد كان الخط المستقيم الذي نأخذه والخامة الصفراء التي تمتد على مدى البصر والحرارة المرتفعة تجعلك تشعر أنها الطريق الى الجحيم ..

بعد ساعات من السير لمحنا مركبة رباعية الدفع من بعيد تقف على قارعة الطريق، تحمل مجموعة من الاشخاص لم نكن نتبين ملامحهم، ظهر بعض الاضطراب على الرجل الذي كان معنا وكان يتعلثم بلغته بكلام ما لم نفهمه، ولربما كان يقصد أولائك المجهولين، لَمّا قصرت المسافة بيننا وأصبح شكلهم أكثر وضوحا بدأ الرجل يصرخ بشكل محموم ( بادا باداا )

لم يكن أي منا يفهم اللهجة المحلية بامتياز لكن يبدو أن الأمر خطير، ربما كان يقول العودة أو شيء من هذا القبيل .. حاولنا فعلا أن نرجع أدراجنا حين رأينا الأسلحة التي كان يحملها أولئك الرجال ، لم نكد ندير السيارة حتى انهال علينا وابل من الرصاص أوقفنا عن المسير.. أصبحت السيارة في لحظة صفيحة مملوءة بالثقوب .

أعمى الدخان بصيرتي وأنا أتكور كالجنين على نفسي، بالكاد كنت أرى يدي أو أحد أصدقائي وبالكاد كنت أتنفس ، وساد صمت عريق لم أدرك معه هل أنا حي او ميت، لكن لم يدم ذلك السكون مطولا فقد انتُزع باب السيارة نزعا من طرف مهاجمينا وسحبونا من الداخل بعنف ورمونا على الأرض موجهين بنادقهم لرؤوسنا .. لقد وقعنا أسرى لدى أحد المجموعات المتناحرة في هته الحرب الاهلية ...

بعد أن عادت لي رؤيتي قدرت على ان ألمح أصدقائي، لقد أصيب اثنان منهما أقدر على تبين موضع النزيف من خلال موضع يديهم على الجرح وملامح الألم على أوجههم ، أما الثالث أكاد اجزم انه ميت انه مستلقٍ من دون حراك والدم يتناثر من رأسه ..

صرخت : ( اوو يا الهي هاري.. !!) بالكاد قدرت على الوقوف للتوجه نحوه حتى باغتتني ضربة قوية على رأسي أردتني فاقدًا للوعي.

لا أدري كم ساعة مرت وأنا مُغْمىً عَلَيّ ، لكن حين افقت كنت في مكان مظلم نسبيا مصفد اليدين ورجلين، كنت أشعر بالدوار وأرى ظلالا ازدواجية كثيرة تتحرك حولي، حاولت تفقد مكاني فتبين اني في زنزانة قذرة أشبه بقفص حيوان، بل هي قفص حيوان فعلا لأن الرائحة مقيتة جدا هنا .. حين اعتادت عيني على الاضاءة الخافتة أمكنني لمح أحد أصدقائي في الزاوية ملقى على الارض ..

ناديته بصوت خافت : ( ليو .. ليوو .. هل تسمعني .. بيتر !!) .. لم أٌقدر على تبين ملامحه لم أكن اعرف هل هو ليو أو بيتر ولكن يبدو انه لم يبقَ غيرنا هنا ولا أدري مصير البقية .. حاولت الزحف نحوه، وفي تلك الأثناء جاء أحد المسلحين وركلني بقوة على وجهي .. شعرت بسائل دافئ يتدفق على وجهي وطنين فضيع في رأسي تحول لألم مهول .. حاولت أن ارفع جذعي لكني تهاويت مجددا ولم أقدر على رؤية شيء، تمازج صوت خطواتهم العنيف مع صوت سحب جسد ما .. لقد كان أحدهم يجر صديقي من رجله بوحشية ليأخذه لمكان ما .. سمعت صوت صفق الباب الحديدي للزنزانة كأنه قادم من بعيد ثم عدت لأفقد وعي من جديد..

كنت اتنفس بصعوبة، آلام مبرحة في كل اطراف جسدي والظمأ يكاد يفتك بي ..ناديت بصوت متقطع بلهجتهم المحلية ( اومي اومي ) .. فصب أحدهم دلوا من الماء الساخن على رأسي .. ارتعدت فرائصي وشعرت بألم بليغ ، وجهي يحترق وعيني المفقوعة تكاد تصرخ بدلي لكني لم أقدر على تحريك ساكن من شدة الوهن .. كنت واثقا من أني ابكي لكن لم أكن متيقنا من ذرف الدموع ..

لم أكن متأكدا من عدد الأيام التي أمضيتها هنا، ولكنها كانت طويلة كالأمد .. فتحة من السقف تسرب بعضا من نور الصبح وتسكبه على وجهي، هذا الشعاع الخافت الذي يؤنس وحدتي ووجعي أنا متمسكٌ بحبله أرتشف الأمل منه .. كنت ساكنا كعادتي مستلقٍ على ظهري أضم يديَّ المكبلتين لصدري، فاتحًا عيني السليمة وموجها نظري لتلك الفجوة الصغيرة ، لقد كانت كالنور الساطع في آخر النفق ... سمعت خطوات تقترب مني ولم اتحرك، قد يكون أحدهم جاء ليتفقدني إن كنت حيا أم لا وسيركلني كعادته ليرى ردة فعلي ثم يغادر .. لكن هته المرة قد طل بوجهه علي وحال بيني وبين النور ..

هل هذا الوجه يبدو مألوفا أم أنني أتخيل ؟ بلى انه هو ! .. استطيع ان اميز طريقة الوشم على وجهه وشفته السفلى المشقوقة .. لقد أتى الينا هذا الرجل في أحد المرات حاملا ولده الوحيد الذي فتكت الحمى به، وكادت احدى يديه ان تبتر بسبب العدوى التي اصيب بها أثناء وشم رمز القبيلة على ذراعه .. لقد أنقذنا ابنه وكنت أنا أول من استقبله ثم ارجع له فلذة كبده سليما كاملا .. أذكر أن دموعه لم تتوقف امتنانا لنا، وكل تلك عبارات الشكر والمحبة التي اغدقنا بها ، لقد حاول تقديم بعض الزرع لنا كهدية بسيطة ومتواضعة ثناءً لنا، يا لطيبته رغم فقره لكنه شخص كريم ..

هل هو النور الذي انتظره ؟!

لقد فتح الأصفاد التي كانت تقيد رجليّ ثم سحبني بسرعة لخارج الزنزانة، سمعت الكثير من الركض خلفي في هذا الرواق وصرخات عديدة لم أتبين معنى ما كانت تقوله، توقف أخيرًا ورفعني لأجلس القرفصاء و بالكاد حافظت على توازني .. كان قلبي يخفق بشدة وعقلي محموم بالأفكار، أعتقد انه سيتم انقاذي ..

يا الهي ! لقد كنت منذ أيام أنا المنقذ والآن أنا بحاجة للإنقاذ، وهاهو أحد الناس الذي ساعدتهم يمد لي يد العون .. أخيرا سأغـ...

صوت دوي رصاصة قاتلة اتجهت لمنتصف رأس الطبيب توماس لتقطع أفكاره وآخر انفاسه.

لقد كانت من طرف الرجل الذي فتح أغلاله.

بقلم شعلاني سارة

  • 3

   نشر في 15 فبراير 2023 .

التعليقات

أحببت ❤️
2
Dallash منذ 1 سنة
بأمانة قصة رائعة وموجعة في آن، ذهبت بي بعيدا إلى عمق الإنسانية التي باتت شعارا لا يسمن ولا يغني من جوع ..دام المداد وأتمنى أن أرى نصوصا أخرى لك.
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا