بعض الأماكن لها سحر جذاب، عندما تطأ ها قدماك لأول مرة تشعر بالألفة و الانتماء، يتبادر إلى ذهنك منذ الزيارة الأولى أنك خلقت و ترعرعت بين أحضانها . مقامك فيها يشرح صدرك و يبهج قلبك. عندما تبتعد يأسرك الحنين و يوقد فيك نار الشوق فلا تشعر إلا و قد عدت من جديد لتعانق عبق الماضي و جمال الحاضر. هذه حكايتي مع غرناطة أو غرناطة العرب كما يحلو لي تسمية محبوبتي ر غم أن ساكنيها عجم.
منذ أن زرتها لأول مرة، و وقعت عيني على مفاتنها أسرني جمالها و بهاء ها و انبهرت بعراقة ماضيها و طيب أصولها. تسلل حبها إلى قلبي مع بزوغ خيوط فجر أول يوم لي على أرضها. شمس ربيعها الدافئة أذابت جليد الغربة فلم أشعر أبدا و أنا فيها أنني في أرض أجنبية اجتزت حدودها بجواز سفر و تأشيرة. فالمشاعر و الأحاسيس لا تؤمن بالحدود ولا حواجز اللغة و الزمان. هي تعبر الزمان و المكان بكل حرية تسافر عبر الحقب و الأماكن تتكلم لغة واحدة رغم اختلاف الألسن و اللكنات.
غرناطتي التي زرتها، طفلة بريئة، جميلة الطلعة، وضاءة المحيا، متوردة الخدين، عيناها تتلألآن نورا كأنهما زمردتان . شعرها أسود حريري سلس ينسدل على كتفيها ليصل إل أسفل ظهرها. يزين رقبتها عقد من زهور الرنج رائحته فواحة زكية ما إن تلامس أنفك حتى تجد نفسك في بستان أندلسي على ضفاف نهر خنيل ترتشف كأس شاي مغربي منسم بالزهر .
ارتدت غرناطة ثوب غربيا لكن رغم ذلك ظلت ملامحها العربية بارزة . تلمسها بين أزقة البيازين و بيوته المزينة بالياسمين و الورد الدمشقي. تغريك الأزقة و تأخذك إلى الماضي البعيد حيث كان الأجداد يعيشون بحرية. تشعر أنك انتقلت إلى زمن آخر يتراءى لك أبطال رواية ثلاثية غرناطة، تبصر طيف رجل وقور و مسن ذو لحية بيضاء إنه أبو جعفر الوراق، ها هو ذا يهم بمغادرة منزله ليلتحق بدكانه في حي الوراقين. خطواته نشيطة و همته عالية ، فدكانه مليء بالمخطوطات القيمة و الطلب على نسخ الكتب مهم جدا هذه الأيام. يغادر أبو جعفر منزله و تخرج حفيدته سليمة لتودعه بيديها الصغيرتين، تطلب منه أن يحضر لها كتابا تقرأه ثم تعود أمام الدار لتلعب مع قريناتها. آه يا سليمة لو تعلمين ما سيصيبك من شغفك بالكتب، كم تفطر قلبي من أجلك. تواصل المسير في الحي، فتلمح أم حسن برفقة حسن في طريقهما إلى السوق، فشهر رمضان على الأبواب و لا يخلو بيت غرناطي من حلوى الزلابية التي ابتكرها زرياب في الأندلس كما يقال، تتبعهما لتكتشف بضائع سوق غرناطة . فجأة، و بدون سابق إنذار يختفي كل شيء و تستفيق على صوت جرس كنيسة سان نيكولا. تلتفت حولك تدرك أنك كنت تحلم في و ضح النهار و أنه لا و جود لحسن ولا لأبي جعفر و لا حتى سليمة. تصاب بخيبة، أمل ترفع رأسك تحذق في السماء الزرقاء، تغير زاوية نظرك، فتبصر من موقعك قصر الحمراء بلونه الترابي، يتربع بهيبته و شموخه، تحفه البساتين الخضراء من كل جهة و يقف خلفه جبل سييرا نيفادا و قد اكتست قمته بلون الثلح الأبيض. تتأمل بإعجاب هذه اللوحة الفنية المليئة بالألوان و المفعمة بالأحاسيس و المشاعر الجياشة. يمضي الوقت و عيناك لا تملان من النظر في هذه القطعة الفنية بديعة الصنع. يتسلل إلى أذنيك صوت خافت بلا مكبر صوت يردد الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة...إنه الأذان القادم من جامع غرناطة الكبير المجاور لسان نيكولا. تدرك حينها أن غرناطة قصة أمة و حضارة، قصة شموخ و كبرياء، قصة نصر و هزيمة ، قصة وجود دائم رغم رحيل. و إن كان الرحيل قد وقع ، فقد بقي الأثر خالدا شامخا دالا على عظمة من سكنوا الأرض فأبدعوا.
-
أسماء المرابطأقوم بتدوين كل ما يجول في مخيلتي من خواطر وأفكار. أحب السفر و الاستكشاف و التعرف غلى عوالم و ثقافات أخرى.