من كان يعبدُ رمضان، فرمضان قد ولّى و فات
و ماذا بعد رمضان؟؟
نشر في 24 ماي 2020 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
عندما توفي الرسول صلى الله عليه و سلم، خرج أبو بكر رضي الله عنه قائلا في الناس "ألا مَنْ كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
كان مجيؤه صلى الله عليه و سلم خيرا كبيرا للدنيا، أحبّه الناسُ و اتّبعوا هديه، و إن وُصف الموتُ بالمصيبة، فإنّ وفاته صلّى اللهُ عليه و سلم كانت أعظم مصيبة حلّت بالبشرية جمعاء، فهو خاتمُ الأنبياء و الرسل، و المبلغُ الصادقُ لوحي الله، وها قد رحل، فهل من مصيبة أكبر؟
خرج أبو بكر يثبّت الناس بعد وفاة الرسول (ص)، لينبّههم أنه اليوم قد بدأت الرحلة الحقيقية للنّفُوس المُؤمنة، و اليوم سيظهر منكُم من آمن بالله حقّا و صدّق رسالة مُحمد صلّى اللهُ عليه و سلّم من الّذين لم يُومنوا حقّا و ثبت فيهم قولهُ تعالى "قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ."
و كأنّي نهاية كلّ رمضان أرى أبا بكر الصديق خارجا في جموع المسلمين صارخا فيهم:
"أيا معشر المسلمين، مَنْ كان يعبد "رمضان" فإن رمضانا قد ولّى و فات، ومن كان يعبد الله فإن الله باق، حي لا يموت."
لنعُد خطوات قليلة حيث استقبلنا شهر رمضان :
- تارك الصلاة، عاد للصلاة إيمانا منه أنه لا صيام مقبولا لمن لا يصلّي
- شارب الخمر، توقف عن شُربه حتى تُقبل صلاتُه و صيامُه في شهر رمضان
- مرتكب الزنا قد توقف استحياء أن يأتي الكبائر في شهر رمضان
- النمّام و المغتاب، كلّما أراد التحدث في عرض أحدهم تذكّر" اللهم إني صائم" ثم صمت.
- السّارقُ قد استحيى من السرقة في هذا الشهر
- و النساءُ قد ارتدين اللّباس المحتشم، احتراما لهذا الشهر
- مدخّن السجائر صبر ساعات الصيام بدون سجائر
- المدمن على مشاهدة الرذائل على التلفاز أو النت قد توقف خشية أن يفسد صيامه في هذا الشهر.
- و ها قد قلّت الألفاظ البديئة و الصراعات احتراما لرمضان.
في مقابل هذا كلّه نلاحظ أن هناك :
- التزاما بمواعيد الصلاة، بل كثيرون زادوا عن الفرائض النوافل
- استيقاظ لصلاة الفجر
- تضرّع بالدعاء للّه في السّجُود و إكثار من الاستغفار
- حمل الجميع قرآنهم المهجور، و تسابقوا لختم القرآن قراءة
- المسارعة في الصدقة بصدر رحب و فرح و بدل المرة مرات.
- السؤال عن الأرحام التي قطعت طويلا......
السؤال الآن، لماذا؟ لماذا تخلّيت عن تلك العادات التي لم تستطع أن تتخلى عنها سنوات عدّة؟ كيف امتلكت القوة كي تلجم نفسك ثلاثين يوما عن معصية كنت ترتكبها؟ كيف عوّدت نفسك على الالتزام بكثير من الأمور كمواعيد الصلاة مثلا؟
أكيد قد لاحظت تغيرا بداخلك، و لو طفيفا. لكن هل سألت نفسك كيف؟ و لم؟
استطعت ذلك، لأنك استشعرت عظمة شهر رمضان، فاستحييت من الاصرار على المعصية و أنت في عبادة "و أنت صائم"، و خفت أن لا يقبل منك صيامك فجاهدت نفسك قدر المستطاع.
ألا يجب أن تشكر الله سبحانه و تعالى على نعمة هذا الشهر الفضيل؟ إنه فعلا مدرسة ربانية تدريبية، فيها تدريب على الصبر ليس فقط على الجوع و العطش، فلعلّك لاحظت أنك بعد أيام من الصيام لم تعد تحس بالجوع و لا بالعطش لأنّ جسمك قد ساير نظام الصوم، بل و لعلّك اكتشفت أنّك فعلا لا تحتاج إلى الطعام الكثير في حياتك، بل وجبات قليلة متكاملة كافية لتعيش بصحة جيدة.
لعلّك اكتشفت في الصيام ما هو أكثرُ من الجوع و العطش، أنك كنت في راحة نفسية جميلة بعيدا عن المعاصي، و لعلك استشعرت حلاوة الحياة بالقرب من الله و التّورُع عن كل معصية، بل لعلك اكتشفت أنك تستطيع أن تتحكم في شهوات نفسك و أنّ ما كنت تتعلّلُ به دائما "أنّك مغلُوب على أمرك" ليس بصحيح و لن ينفعك أن تعتذر به لله يوم الحساب، فقد برهنت طيلة شهر كامل أنّك تملك القوة و القدرة الكافية على السّيطرة على نفسك و تقويمها.
أخي القارئ، أختي القارئة،
ها هو شهرُ رمضان قد رحل، و لا تدرى هل تُدركُ رمضان السنة المقبلة أم لا.
لقد أرادك الله سبحانه أن تكتشف ذاتك في هذا الشهر، أن تعلم أنّك تستطيع أن تكون إنسانا صالحا مُصلحا مُؤمنا طائعا للّه، قريبا منه، أراد أن تتزوّد من هذا الشهر بالطاقة الإيمانية التي ستساعدك على الصبر على ترك المعصية، و الصبر على الطاعة، و على الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النّفس الأمّارة بالسُّوء، أرادك أن تتذوق حلاوة الطّاعة و الايمان و أن تسير إليه بخطا ثابتة، و أن تحافظ على ما اكتسبته من خير و فضل في هذا الشهر كي تقترب إليه في كل محطة من هذه المحطات الايمانية.
أخي العزيز، أختي العزيزة،
لا تكن كالّتي قال فيها الله سبحان و تعالى "نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا"، فما قولك إن رأيت امرأة تقُضُّ حبلها من بعد إبرامها إيّاهُ دون أن تنتفع به؟ لعلّك تقول: ما أحمق هذه.
و أنا أقول، ما أحمق هذا الذي قد طالته رحمة اللّه و نفحات الخير من هذا الشهرالفضيل، فأقلع عن معصية كان يرتكبُها، و سارع في خير كان غافلا عنه، ثم حين انقضى الشهر الفضيل عاد لما كان عليه من جهل و معصية، و ترك كل خير اكتسبه، و بالتالي لم يصلهُ من رمضان إلا ساعات الجُوع و العطش، و اللّه في غنى عن جُوعه و عطشه.
فإيّاك ثم إيّاك أن تكون قد اعتبرت رمضان أيّاما معدودات تريح فيها نفسك من المعصية لكنّك وعدتها أنك ستعيدُ لها سيرتها الأُولى بعد انقضاء شهر رمضان، فتكون كالذين فضحهم الله في القرآن بقوله " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره".
احذر أن تتقمص صورة المؤمن التّقي طيلة رمضان ثم تكفر و تجحدُ بنعمة الله و هدايته لك بعده، ف" إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم".
و اعلم أن من علامات قبول العمل في هذا الشهر، أن تُتبع الحسنة بالحسنة، و ينشرح صدرك للعبادة، و تتوب من الذنوب الماضية و التي قد أٌقلعت عنها أو حاولت طيلة شهر رمضان، و إن راودتك نفسك على العودة جاهدتها، و أصرّيت على الاستقامة، و إن حدث و غلبتك نفسك مرّة بالمعصية لم تفرح بها و لم تصرّ عليها " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون".
و اعلم أن أكبر علامة على قبول العمل هو خوفك الدائم من عدم قبول صيامك و قيامك و عملك في هذا الشهر الكريم و دعاؤك الدائم لله بالقبول. و لهذا كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبّله منهم، لأنهم عرفوا الله حق المعرفة، و لم تُغرهم حسنة قدّموها.
في الأخير، كن على يقين أيها القارئ العزيز، أن الله سبحانه و تعالى لم يأمر بشيء عبثا، و إنه خلقنا و يعلم أن أنفسنا تميل لشهوات الحياة، فنفقد السيطرة عليها أحيانا كثيرة و ننسى و نغفل عن الهدف الأسمى الذي وُجدنا من أجله، ألا هو عبادة الله سبحانه حق عبادة "و ما خلقت الجنّ و الانس إلا ليعبدون"، ففرض علينا سبحانه محطّات إيمانية نتزود منها بالايمان، و نمسحُ بها الغبار عن أرواحنا و قلوبنا التى غلفتها الغفلة و حب الحياة.
ليكن رمضان هذه السنة مختلفا، لنجعله محطة جدّدنا فيها الايمان، و لتكن نهايته بداية للرحلة الحقيقية، رحلة طويلة تنتظرنا من جهاد للنفس و حفاظ على الاستقامة، لنجعله إذا قنطرة نعبر بها نحو الله سبحانه و تعالى.
تذكروا و ذكروا بها غيركم "أن من كان يعبدُ رمضان فرمضان ليس إلا شهرا من شهور الله، هو منقض لا محالة، قد يعود و قد لا يعود يوما، أمّا من كان يعبد الله، فهو مستمر في طريقه إليه، لأنه يعلم أن الله حيّ لا يموت" .
تقبل الله منا و منكم صالح الأعمال
و عيدكم مبارك سعيد