بلسميات - ٤
قصّة رجلٍ صار أباً أواخر عقده الرابع
نشر في 07 يوليوز 2018 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
سمّر عينيه في وجهه البريء وهو يصعد به السلّم إلى مسكن جدّته، لعلّه يُشبع ناظريه منه. عاجلته الجدّة لتودّعه ولتلتقط الصغير منه من دون أن يستمهلها، فما عسى تلك اللحظات أن تمنحه؟ أخذت الرضيع منه وكأنها انتزعت قلبه. أخذته منه وهو مازال يحاول أن يروي ظمأه من النظر إلى صغيره.
خطر في باله للحظةٍ أنه لو استطاع أن يحبس منافذ الحواس لديه تماماً، لربما احتفظ بصوت ابنه مطبوعاً في سمعه، وعبقه مطبوعاً في شمّه، وملمسه مطبوعاً على أنامله، وهيئتة مطبوعةً في بصره، وحرارته وثقله مطبوعةً على صدره ويديه، ليدوم إحساسه باحتضان ولده، فتدوم طمأنينته ويهنأ باله ويطيب فؤاده.
أرخى عبراته بمجرد أن جلس في سيارة زوجته كي تقلّه إلى المطار في رحلةٍ طويلة كانا فيها متأخرين. حاولت التخفيف عنه، لكن أسئلة الأيام السابقة مازالت تحاصره:
- ألم يحن الوقت بعد ليلتئمّ شملنا؟ هل كتب علينا أن نمضي حياتنا مفترقين؟ قد هان عليك بعدنا سبع سنين، ما زرتني خلالها إلا غُبّاً. وزرعت في قلبي جمراتٍ بعدد مرّات التي ودّعتك فيها. ها أنت تتجرّع من الكأس نفسه الذي سقيتني منه، وتكتوي من جمرات مفارقة صغيرك. أتراها سهلة؟!
لا والله ليست سهلة. يجيب قلبه، وينطلق لسانه:
- دعينا نأمل أن يعوّضنا ربّنا خيراً مما فات.
فتعيد عليه السؤال لتتأكد من حبّه:
- ألا يساورك الندم على ارتباطك بي وبغيري معاً؟ لمَ تكوينا جميعاً بنار الفراق كلّ مرّة؟ أولا ترغب بحياةٍ أقلّ عبئاً من حياتك المُرّة؟
كيف يندم من آثر التضحية براحته ووقته ودخله، وما سعى خلف رغدٍ أتيح له؟ وكيف يندم من لم يك أنانياً، يبتاع راحته بشقاء الآخرين؟ يفكّر في ذلك ويجيب:
- لا. لم أندم قطّ على قرارٍ اتخذته بعد تأنٍّ.
- ألا تفكّر في الندوب التي ستتركها في نفس وليدك وهو يراك تأتيه زائراً، ثم لا تلبث تغرب عنه مرتحلا؟ ألا تقدّر أنك قد تخلّف فيه شعوراً بنقص الرعاية التي يستحقّها؟
تلحّ عليه لتنظر فيما إن كان يعير ولده الاهتمام ذاته الذي يوليه للآخرين، حتى أوجعته أسئلتها. يتذكّر الإصابة التي لحقت به وهو صغير، وأردته معوّقاً نفسياً من عقدة النقص. فكانت سبباً في رسم حياته على نحوٍ يستعصى على التصديق من قبل أقاربه وأصدقائه. حتى آثر الانسحاب من النشاطات اجتماعية وانطوى على ذاته وأغلق بابه.
يستعرض سريعاً شريط ذكرياتٍ تحكي أطواره الغريبة، قراراته العجيبة، شخصيته الضعيفة، ثقته المتدنّية، تنازلاته الكثيرة ورضاه بالقليل، أسفاره وجمرات الوداع المودعة في فؤاده وأفئدة أحبّته. أيرضى بأن يعاني بلسمه منها وهو البلسمُ؟ محال أن يسمح بحدوث بعضها لفلذة كبده.
بلسم الذي حقّق له أحلى أحلامه. بلسم الذي خلّصه من الكآبة التي لازمته. بلسم الذي داوى عجزه. بلسم الذي أثبت به للجميع أنه لم يكُ يوماً ساذجاً، ولم يخطئ في قراراته. بلسم الودود الذي يرسم البسمة على وجوه الناظرين إليه، أيجزيه سوء الجزاء هكذا؟
تحاصره الأسئلة حتى توشك قواه أن تخور، فيستذكر في الوقت نفسه أن بلسم هو إرادة الله التي تقول لنا:
لا تبحثوا عن الخير بأهوائكم ولا تسعوا إليه بنزواتكم. يكمن الخير فيما اختاره الله. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم. ولا تستبطئوه، فكلّ شيءٍ آتٍ في أوانه. ولو اطّلعتم على الغيب لاخترتم الواقع. احلموا واجتهدوا، لكن لا تشينوا لأخلاقكم، ولا تنسوا الفضل بينكم. واستيقنوا أنما تقدّموه لأنفسكم، تلقوه في لاحق أمركم. ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً.
يجلس في الطائرة وهو مبتسمٌ، والصدر منقبضٌ والقلب منتحبُ. يهمس راجياً: بلسم حياتي وطبيب روحي ودواء قلبي. انتظرتك طويلاً يا ملاكي، فكفاك عبثاً بروحي.
-
أقباس فخريلا أكتب للناس بل أكتب لذاتي. أحاول العثور على نفسي حين أكتب. لعلّي ألملم شتاتها المبعثرة فأجمعها، أو عساني أعيد تكويني.
التعليقات
ينجم عنه مشاعر قاسية ( نوع من لوم الذات ... شعور بالتقصير .. اكتئاب...)
لكن كل ذلك يهون من اجل بلسم الذي حقّق لك أحلى أحلامك . الذي خلّصك من الكآبة. الذى يرسم البسمة على وجوه الناظرين إليه،
لكن ما كتبته اخي الفاضل أقباس في الفقرة تلك (لا تبحثوا عن الخير بأهوائكم ...بل يكمن فيما اختاره الله. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم. .. ولو اطّلعتم على الغيب لاخترتم الواقع. احلموا واجتهدوا، لكن لا تشينوا لأخلاقكم، ولا تنسوا الفضل بينكم......) قد يكون الحل الذي يتفق عليه البعض ويصبر نفسه به ... واخرين يظلوا في دائرة المشاعر القاسية من جلد الذات.. و التحسر على الاحوال
لاسيما أذا راى اشخاص اخرين يأخذون في الغربة زوجاتهم وأولادهم ...
مقال مؤثر... حفظ الله لك فلذة كبدك بلسم ...