يقولُ لنا «فرانسيس بيكون»: إن القراءة تصنع الإنسان الكامل.
وبالفعل، هذه هي وظائف القراءة ونتائجها، أن ترمم لنا ذواتنا، وأن تجعل منّا أشخاصًا قادرين على المُضي قُدمًا، لا تُخيفنا المشاكل التي تواجهنا لأننا نعرف شيئًا واحدًا، ألا وهو أنّ في التاريخ القديم والحديث لم تواجهنا مشكلة إلا وجعلنا منها حلًا لمشاكلَ أخرى، أو تجنبنا حدوث مشاكل على غِرارها أقلّه.
لكن بدورنا نحن نسأله السؤال الآتي: كيف كانوا يتعاملون مع الكتب التي تجعل حتى الإنسان الكامل، نصف وعي، نصف فكرة، نصف عقل ونصف أخلاق، ومن الإنسان غير المكتمل بعد إنسانًا عالة على المجتمع، خائفًا من وجوده، لا يُجابه، يرى الحق باطلًا، ويجعل من الباطلِ حقًّا.
يقرأ ليختفي عن المجتمع، يقرأ ليحارب مجتمعه لا ليؤسس قاعدة أخلاقية وفكرية مُتّزنة تُصلِحُ أخطاء ذلك المجتمع؟
من خلال ما تقدّم لنا، وما عرفناه وقرأناه من العصر الذي كانت به النهضة المعرفية والأدبية في ذروتها، حيث كان القلم يُصحح كوارث ويبني أُممًا، حيث كان الأدب يُعالج مشاكل لم يستطع غيره معالجتها، فإننا نعتقد الجواب سيكون كالآتي: إن النظام الأخلاقي الذي كان مُترتبًا على المُفكّر، كان يجعلهُ بالدرجة الأولى مسؤولًا عن نفسه وما يُقدم له، مسؤولًا على السير والمحافظة على ذلك النظام، يرى بوضوح – بعيدًا عن اللغط والازدواجية – ما يحدث حوله، ويتنبأ بما سيحدث.
هو ذاته النظام الأخلاقي الذي كان يجعل الكاتب يتوقف عن الكتابة والطرح في اللحظة التي يعرف بها أنه لا يُغيّر أدنى تغيير في مجتمعه، وهو النظام الأخلاقي والمعرفي الذي لا يُهيّئ له الإمكانات التي تجعله يُؤسس وينحاز ويُمهد لأيديولوجيا مُحددة، موظفًا قلمه للاستغلال والترويج، ولنشر الأكاذيب على أنها حقائق.
ونرى اليوم ما آلت إليه الأمور بالساحة الأدبية في مجتمعاتنا، حيث طغى الطالح على الصالح، والابتذال على العمق.
لم يعد القارئ قادرًا على التمييز بين الكتاب الجيد وبين الكتاب السيء، فأصبح الكِتاب يهدم عائلات، ويهدمُ عقولًا، وأُتيحت الساحة الأدبية للكاتب ذي الأفكار العقيمة قبل أن تُتاح للكاتب الذي أُسميه المُسعف الفكري والأخلاقي للشعوب.
فكيف نستطيع نقد ودفع كل ما هو مُبتذل، وإتاحة الفرصة لمن يُعطي الأدب أحقيّتهُ؟!
مثلًا؛ عندما يجعلنا كاتبٌ ما – حين نقرأ له – نتألم، بل ونخاف من آلامنا، دون أن يُكلّف نفسه ويجتاح أعماق النفس البشرية ويقرأ بدوره ما بداخلنا من خلال قراءتنا لهُ، فعلينا أن نمنعه من ذلك بل أن نقتله خنقًا بكلماته ونقدنا إن لزم الأمر، لأنه بهذه الطريقة يكون قد قتل الحياة بنا والتي نحنُ على قيدها.
وظيفة الكاتب أن يكشف لك ما بنفسك، لا أن يُخيفك، وأن يُظهر لك سبب ما تمر به، لا أن يمهد لمعاناتك قاعدة قوية تتمكن منك، أن يتنبأ بحدوث الأشياء، لا أن يُعطيك الحِكم التي سوف تنساها فور إغلاقك الكتاب.
وعليه أن يُعالج ما تطرق إليه، لا أن يفتح باب مشاكلك عند آخر صفحة من الكتاب ويهرب.
الكاتب الجيد، الذي يفتح آفاق عقلك، وينبهك لقدراتك الكامنة، ليس الذي يبني حول عقلك وأفكارك سياجًا دوغمائيًا لا ترى من خلاله إلا محيط الأنا، حيثُ ترى أنك أنت الحق، وغيرك الباطل، فالكاتب قادر على أن يجعلك ترى من عُنصريتك تعايُشًا، ومن انغلاقك انفتاحًا، ومن تراجعك حضارة، ومنك عبدًا وأنت تحسب نفسك حُرًا.
الكاتب الجيد، بل من أُسميّه المُبهر، الذي يجعلك تتعرف إلى نفسك، ويجعلك تسيطر على نفسك وألمك لا أن تستكين لهما، الذي يكشفك حين تَكذُب، ويُكذّبك حين تصدق.
من يجعلنا نستثمر أفكارنا، ويجعل من عقولنا منارات، ومن قلوبنا عُكّازًا للمستقبل ودرعًا مضادًا للخوف.
هو الذي يجعل من القلق الوجودي أُحجية ممتعة لديك، ويُمهّدك لتكون مغامرًا ومثقفًا فذًا تخوض أشرس الحروب النفسية وأنت مُبتسم، يُريك فشلك وسقوطك ويعرّفك كيف تنهض بأقل الخسائر.
الكاتب الجيد ليس من يجعلك تَغرق بالكتب أكثر وأكثر، بل من يكشف لك الحياة خارج الكتب، من يقول لك كيف تتأمل، وتكتسب من وردة في البرية حكمة توازي مجموعة كُتب بحالها.
الكاتب الفذّ، ليس من يختار لك المواضيع التي سوف تبحث بها، بل من يُمكّنك من إيجاد ذاتك في موضوع ما واختصاصٍ ما.
وأستشهد هُنا بما قاله الفيلسوف «نيتشه»: «كل من يعتقد أنّهُ فَهِمَ شيئًا من كتاباتي، فـقد فهم مني ما فهم طبقًا لصورته الخاصة».
في النهاية، لا تجعل الكاتب من يتحكم بكيفية خروجك من كتابه، بل أن تخرج أنت من كتابه كيفما أردت، مستخرجًا حكمة، ألا وهي أنه لم يُفدك بشيء، غير العواطف والمشاعر التي لا تُفضي إلا للتقوقع والانعزال، وتكتسب فكرة متى شئت وكيفما شئت حتى وإن لم تكن موجودة.
عن نفسي أنا، فإن أول فكرة أخذتها من أول كتاب، هي فكرة أن هذا الكتاب لم يُعزز لي مبادئي الجيّدة، ولم يزلزل لي قواعدي الوهمية، ولم يُغيّر لي أفكاري الخاطئة، كانت الفكرة التي اكتسبتها هو أنني حين أستطيع كشف أفكار الكاتب قبل أن يكشف هو أفكاري، فمن اللازم تغيير الكتاب وبأسرع وقت.
وهذا ما أقصِدهُ بالكِتاب الذي يقتل قارئه، حيثُ إنه لا يُحَاكم ويُسجن بل يجعل من جهلنا سجونًا لنا، ومن تُرهّاتهِ مبادئَ وقواعدَ لا نُحاكم ونحاسب بها إلا أنفسنا.
ببساطة، نحنُ بحاجة إلى كتاب نعرفُ من خلاله أننا لا نعرف شيئًا.
-
أحمد محمد يحيى21 عامًا.. طالب قسم الحقوق في الجامعة اللبنانية \ كاتب وقاص لدى عدّة مدونات.
التعليقات
من يجعلنا نستثمر أفكارنا، ويجعل من عقولنا منارات))
اذهلني رأيك وتمييزك لصفات الكاتب الجيد رغم صغر سنك،
و كثيره هي المقالات التي استوقفني اعمار اصحابها ....
عقول ناضجة ومواهب ساطعة
بأعمار صغيرة !!!!
سلمت اناملك ،
وإلى الأمام يا أحمد.