الانتحار حرقاً - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الانتحار حرقاً

أ. بسام أبو عليان

  نشر في 14 ماي 2016 .


منذ أن أحرق الشاب التونسي "طارق الطيب البوعزيزي" نفسه في تاريخ (17/12/2010م) احتجاجاً على الاعتداء الذي تعرض له من جانب شرطة البلدية بمصادرة عربته التي كان يبيع علها الخضار والفاكهة. اعتبر كثيراً من العرب ـ بينهم مثقفين ومفكرين كبار ـ هذا الحدث بمثابة الشرارة التي أطلقت ما سمي بثورات "الربيع العربي". الكل زمّر وطبّل للحادثة كونها بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث حركت الشارع والجماهير ثورة على أنظمة الحكم في الدول العربية. رغم ما في حادثة الحرق من مخالفة شرعية بارتكاب كبيرة، وإزهاق الروح بغير وجه حق (الانتحار).

إن ما سمي بـ"الربيع العربي" لا أراه إلا "خريفاً عربياً". لم يجلب إلى المجتمع العربي إلا الخراب، والدمار، والفوضى، وإراقة الدماء، وتناثر الأشلاء، وتشرد الآمنين من بيوتهم ـ بل من مجتمعهم ـ، وتدمير السلم والأمن الاجتماعيين، ونمو الجماعات المتطرفة والمتشددة باسم الدين، ـ الدين منها ومن أفكارها وسلوكها براء ـ.

على أية حال، بعض المتهورين، واليائسين، والمحبطين، والطائشين، وضعاف الوازع الديني رأوا في "الحرق" أسلوباً لامعاً وجالباً للتعاطف معهم؛ تعبيراً عن رفضهم للواقع الأليم، أو اعتراضاً على ظلم لحق بهم.

مثلما توجد الموضة والتقليعات في الملابس، وتسريحات الشعر، وأنواع الطعام والشراب، وديكور المنازل... إلخ. بدأنا نلمس موضة وتقليعة جديدة للانتحار في المجتمع الغزي، ـ إن جاز التعبير ـ، على طريقة البوعزيزي.

عندما كنا نقرأ أو نسمع خبر انتحار في السابق كان يتم باحتساء سم الفئران، أو المبيدات الحشرية، أو الأدوية الزراعية (البراسيا)، أو الشنق. لكننا اليوم نجد أنفسنا أمام تقليعة جديدة للانتحار، (الانتحار بالحرق) لأسباب في أغلبها وظاهرها تافهة لا تستحق هذا التصرف المتهور والطائش الذي يودي بحياة الفرد، وينقله من نار إلى نار ـ والعياذ بالله ـ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ قتلَ نفسَهُ بحديدَةٍ فحديدتُهُ في يدِهِ يتوَجَّأُ بها في بطنِهِ في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا . ومَنْ شرِبَ سُمًّا فقتَلَ نَفْسَهُ فهو يتحسَّاهُ في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا . وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جبَلٍ فقتَلَ نفسَهُ فهو يتردَّى في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا". [مسلم:109].

إذا تأملنا أغلب حالات الانتحار الأخيرة في غزة. تجد الأول انتحر حرقاً بسبب تحرير مخالفة مرورية، وثاني انتحر حرقاً بسبب مطالبته بديون مستحقة عليه لم يستطع أدائها، وثالث انتحر حرقاً لعدم وجود فرصة عمل له، ورابع انتحر حرقاً لعدم قدرته على تلبية احتياجات أفراد أسرته!

لا يختلف اثنان على أن الواقع الحياتي في قطاع غزة جحيم لا يطاق على كافة الأصعدة، ومأساوي إلى حد يفوق الوصف. خذ على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ: انقطاع للتيار الكهربائي لما يزيد عن اثنتي عشر ساعة في اليوم، انقطاع للمياه، ـ لا تأتي إلا مرة واحدة في الأسبوع لوقت محدود جداً ـ، المعابر مغلقة ومحكمة الإغلاق فلا حرية للحركة والتنقل، بطالة مستفحلة في صفوف العمال وخريجي الجامعات، زيادة نسبة متعاطي المواد المخدرة، جرائم القتل والثأر... إلخ.

رغم ما سبق، إن المجتمع الفلسطيني في تاريخه وحاضره مر في ظروف أشد قتامة وسوداوية، وضنكاً في العيش، والحصار أشد من التي نحن عليها الآن. لكننا ما سمعنا ولا قرأنا أن أحداً انتحر لسبب من الأسباب سالفة الذكر.

في حديث العامة، يرجعون تصرف المنتحرين إلى الحصار، والانقسام، والبطالة. هذه العوامل قد تكون محركة للانتحار، لكن ليس بهذه الصورة الفوضوية والعبثية التي نراها في المجتمع الغزي. أربع حالات انتحار بالحرق في يوم واحد فقط!!

حالات الانتحار الأخيرة في غزة فيها جانب من الرياء. (رياء في الانتحار؟!!)

من يريد الانتحار في السابق كان يتوارى عن أنظار الناس لئلا يصدوه عن مراده. أما منتحرو اليوم لا يحلو لهم الانتحار إلا في الميادين العامة، والمفترقات، وعلى مرأى الناس. مثل هؤلاء الذين يستهينون بأرواحهم، ولا يردعهم رادع ديني، لا أرى أنه يجب منعهم، ولا صدهم عن سلوكهم ليكونوا عبرة لغيرهم.

إن ظاهرة (الانتحار) لم تأخذ حظها بشكل كبير في المعالجة سواء على صعيد المساجد، أو وسائل الإعلام، أو الأبحاث. خطباء الجمعة حولوا أنفسهم إلى محللين سياسيين، أو خطباء قص ولصق للخطب دون معالجة مشكلات الواقع بأسلوب مستنير مستمد من واقعنا. أما وسائل الإعلام ـ على أغلبها ـ جعلت وظيفتها الرئيسية تغذية الانقسام اللعين بنقل الأخبار والتصريحات السامة التي تكدر صفو الشارع الفلسطيني. أما الباحثين أصبحوا تقليديين في دراستهم لا يتناولون إلا موضوعات أنهكت بحثاً ودراسة لأجل ترقية. ولا توجد معالجة حقيقية لمشكلات المجتمع.




  • د. بسام أبو عليان
    محاضر في قسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى. محاضر سابق في جامعات: (الأزهر، والقدس المفتوحة، والأمة للتعليم المفتوح، وكلية المجتمع). مدرب في مجال التنمية البشرية.
   نشر في 14 ماي 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا