لاشك أن الحِكم والأمثال هي خزان تجارب الأمم والشعوب. تمنحها بوصلة لأفعالها ومواقفها اليومية. وكم يحلو لنا عند معاينة تصرف أو سلوك ما أن نستشهد بحكمة أوقول مأثور يكشف لنا عبقرية أسلافنا، ورؤيتهم الثاقبة لبواطن الأمور.

لكن أحكام البشر ورؤاهم تظل بالتأكيد نسبية، ولا ترى من الحقيقة إلا بعضها أو ظلها. ومن حق المجتمعات أن تعيد بين الفينة والأخرى غربلة رصيدها من الأقوال المأثورة ، حتى لا تطغى العادة على الفكر، ويصاب الإنسان بالحيرة بين الحكمة وضدها.

إن من يجد قولا مأثورا لكل موقف لا يفكر في أي شيء، يقول جوليان باجيني، لأن الحكمة لا تخلو من تضليل؛ فالببغاء الذي لا يردد سوى كلمات العقول العظيمة لا يملك هو نفسه عقلا عظيما !

في كتابه " هل تحكم على الكتاب من عنوانه؟" يدعو الفيلسوف والكاتب الصحفي جوليان باجيني، إلى التصحيح النقدي لمئة من الأقوال والأمثال السائرة، عبر البحث في السياقات التي أفرزتها. وهي دعوة تحتفي بالعقل والذكاء أمام الاستسلام لموروث لا يعكس الحقيقة بشكل مستمر .

( عصفور في اليد خير من اثنين فوق الشجرة )

يعبر هذا القول عن ظاهرة كراهية الخسارة والمغامرة، لكنه يؤسس في الحقيقة لانعدام المخاطرة، ويجعلنا نحتفظ أحيانا بأشياء من مصلحتنا التخلي عنها.

من الحماقة إذن أن نحتفظ بعصفور واحد إذا كان بإمكاننا اصطياد اثنين !

( لا يوجد دخان بغير نار )

قول قديم ومتهالك يعود إلى أواخر القرون الوسطى، ولايزال الناس يرددونه من صميم قلوبهم على أنه حقيقة عامة. لكن إذا أخذنا الصورة البلاغية وأعدنا قراءتها بشكل متجدد لتبين لنا أن الشائعات لا تخفي دائما نصيبا من الحقيقة، وأن العلاقة بينهما ليس علاقة سبب ونتيجة.

قد يكون الدخان حصيلة عود ثقاب يلعب به شخص واحد لا غير !

( صاحب سبع صنائع ولا يجيد أيا منها)

حسب مقولة للشاعر اليوناني القديم " أرخيلوكس" فصاحب الصنائع السبع هو الثعلب المعروف بسطحيته، بينما القنفذ يعرف شيئا واحدا ويجيده بعمق. لكن المشكلة اليوم أن أعداد القنافذ التي تتقن شيئا واحدا في ازدياد مستمر، حيث أصبح التخصص الأكاديمي المفرط عنوان حضارة بأكملها، وأدى إلى تضخم مشاعر الإحباط والملل ونضوب الإبداع.

( ما لا يقتلني يجعلني أكثر قوة )

مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه لا تخلو من مغالطة، لأن المحن و المصائب تترك الناس في حالة من السقم النفسي والبدني؛ ولولا ذلك لأصبحنا بسببها محطات مولدة للطاقة في سن الشيخوخة!

لا دليل على أن الشخص الذي سيمر بوقت عصيب سيكون أكثر قوة؛ إذ ليست هناك حتمية مطلقة لذلك، لأن الأمر مرتبط بقوة إرادته وليس بإرادة نيتشه للقوة .

ما لا يقتلك قد يجعلك أضعف إذا سمحت له بذلك !

( الاستثناء يُثبت القاعدة )

قد تكون الفكرة في أصلها جيدة، لكنها تفقد بريقها حين يعيد المتحذلقون ومدعو العلم تجديدها. وإذا كانت هناك استثناءات للقاعدة فذلك متوقف على القاعدة نفسها.

إن ما فعله مدعو العلم هو استبعادهم الدلالة اللاتينية الأصلية ل" يُثبت" و التي تعني " يختبر" وبالتالي تصبح المقولة بعد تحيينها كالآتي : الاستثناء يختبر القاعدة، وهي دعوة لمراجعة القواعد و ملاءمتها بحسب ما يُستجد.

( رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة )

هذا القول أشبه بمن يدعوك لحفر نفق بالملعقة، وهو مُثبط للعزيمة حين نفكر في أن مواردنا ليست كافية لننجز العمل.

إن فكرة الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة تحيل على أن الجهود العظيمة يمكن تقسيمها إلى أجزاء صغيرة يسهل القيام بها. لكن الخطر هنا يكمن في الراحة الزائفة التي يوفرها؛ لأن بلوغ نهاية الرحلة لا يتوقف على إدراك اتجاه السفر، وإنما على السرعة كذلك !

( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب )

عبارة غامضة تُحرض على حياة الرهبنة، وتدفع الآباء لإسكات أبنائهم، كما تحث الأوغاد على إخفاء معالم أخطائهم.

استخدمت تلك المقولة في الغالب لتشجيع الحذر، وترويج الخداع الحميد. فالقيمة المعطاة للسكوت في هذا السياق تعكس أوضاعا اجتماعية قد لا نتفق معها.

يمكن للسكوت أن يكون اعتياديا أو قهريا، ومهتما أو غير مرحب به. إننا قد نسيء فهم قيمته العليا حين نخطئ في أغلب الأحيان استخدامه!

على هذا المنوال يمضي باجيني في تفكيك مقولات سائرة، وتحريضنا على تشريحها ومحاكمتها في ظل سياق جديد، فنحن بالاعتماد عليها نخلط بين الرشاقة الذهنية والبصيرة التامة، ونسمح لقدرات استدلالية لبعض البشر أن تصير بوصلة أبدية، تقرر لنا ما يجب فعله أو التفكير فيه.

إن قدرتنا على التغيير مرتبطة بعزمنا على مواصلة التساؤل.. تلك هي الرسالة التي يبعث بها باجيني من بين ثنايا مئة قول ومثل سائر !

كتاب جدير بالقراءة !