استيقظت عيناه كعادته كل صباح على كآبة الجدران ، وتلك الساعة العتيقة
المعلقة بلا دقات ، كأنها إنسان يأبى الحياه . يسير ببطء في أرجاء المنزل ، يغرق رأسه بالمياه ويصمت برهه . يشعل سيجارته في عنف ، يرتشف قليلا من القهوه ويرتدى بزته متأبطا حقيبته السوداء نحيسة الطالع ويهبط الدرج في لهفة بلا مبرر . يوصد باب منزله وتصدم عيناه بنفس الوجوه كل صباح . سيماء متبلدة تحاوره كل صباح ، طرقات ومنازل ، أشخاص وأجواء لا تتغير تؤلمه محطمة فؤاده . نفس الأسقام كما هى : حقد ، نفاق ، نميمه ، شماته ، انحطاط ، بذاءه ، كل ما أمكن انتشاله من مقابر الأخلاق . يعدو في الطريق فلتقط أذناه سباب الدين من طفل ذبحت براءته ويتكرر السباب بلا وازع ، تهكم على رجل طاعن في السن ، تحرش بعصام المجنون وتتعالى الضحكات ، صوت عبير المذبوح يصرخ : - أنا لست مجنونه وتتعالى الضحكات من أم تحرض ابنتها ،من شاب ورفيقه . آلات التنبيه وهى تخرق أذنك من سائقى الدراجات البخاريه وجنون السرعه كأنه العدوان . فتيات يتحرشن بأجسادهن في كل مكان وعيون تترصد كالذئاب . ألسنة كالسياط تلهب بالغيبة في هذا وفي ذاك ، مروجى المخدرات ، طلقات السلاح التى تدوى في الأرجاء . يستقل الحافلة في صمت ، يجفف عرقه من شدة القيظ . يذهب في بطء نحو المستشفى ، وبعد طول عناء يقابل طبيب الأمراض النفسيه . في بضع دقائق يتكلم ، ينفث ما بداخله ويبكى والطبيب مشغول بفنجان القهوة المتأخر . يلخص حياته في ورقة بيضاء مكتوب فيها o.c.d وبعض الأدوية . يتأبط حقيبته السوداء وترمق عيناه روشتة الأدوية في رتابة ؛ لتستقر في قبر أحلامه. يخرج من باب المستشفى مديرا عيناه صوب مدرسته الثانويه التي انقرضت بمبناها القديم . حتى الحديقة الخضراء نسفتها الكتل الخرسانيه والأبراج . يتذكر صديقه عامر ويزفر زفرة . يود أن يذهب إليه . خمس سنوات مرت ولم يره أو يطمئن عليه . يقرر أن يتحدى خوفه وهواجسه ذهابا إليه . يقطع الطرق ويقف قليلا ، يرجع للوراء ويقرر أن يرجع ثم ما يلبث أن يعاود مرة أخرى . وأخيرا وبعد طول عناء وصل صوب منزل عامر . الباب موصد وسلة طعام فارغة تتدلى من النافذة . يطرق الباب مرة وأخرى بلا إجابة ، يطرق في عنف بلا إجابة . تجيب إحدى السيدات : - ليس ثمة أحد هنا يا ابنى ، لقد غادروا المنزل . يسأل في دهشه : هل غادر عامر معهم ؟ تجيب في أسى :- لقد توفى عامر منذ أربعة أشهر وغادر الجميع المنزل . يسأل فى مسحة من الحسرة :- كيف حدث هذا؟ لقد شنق نفسه يا ابنى في هذه الغرفة التى أمامك مباشرة . تتدحرج دمعة من عينيها قائلة : - لقد كان شاب طيبا يا ابنى ،لم نجد منه إلا الخير ودماثة الأخلاق –رحمه الله-. يرجع بذاكرته للوراء ويعبر منفتح الشارع ونهايته مرات عديده مشعلاُ السيجارة تلو الأخرى . يتذكر آلامهما سويا ، ضحكاتهما الحزينة ، أحلامهما المحطمة في مجتمع قاس . يذهب إلى الشارع المجاور متوجها إلى متجر عم "مرسى " علّه يجد عنده ما يشفي لهيب صدره عن صديقه عامر. يجول ببصره فلا يجد أثر للمتجر ، يسأل هنا وهناك ، وفجأة تطل أحدى العجائز من الشرفة الأمامية متحدثة في حزن:- لقد أغلق المتجر يا ابنى من شهرين تقريبا ، منذ وفاة عم مرسى ، –رحمه الله -. يرجع خطوات إلى الوراء ، وفجأة يستخرج أحدى الأقلام ويكتب على جدران الطريق وسط دهشة المارة :- لقد رحل عامر. يقلب فى هاتفه الجوال ويرسل الرسائل إلى كل الأشخاص المدونة في هاتفه : لقد رحل عامر . يريد أن يصرخ ، يخبر كل العالم : لقد رحل عامر.
To the soul of my friend, Amar, Allha forgive you""