صيف عابر في أيلول
عندما ابتسمت لي من بعيد شعرت بأن الثقل الذي كان يجثو على قلبي تلاشى كشمس أيلول العابرة .. لأنها كانت ابتسامة صادقة، لا تشبه أياً من تلك الأقنعة التي كنت أخلعها وأرتديها عند كل لقاء ..
نشر في 19 شتنبر 2018 .
عندما اعترفت لها بحبي طلبت مني أن أعرف لها الحب، أجبتها بأنني لا أحب الفلسفة وأنني كنت دوماً إنساناً منطقياً في حكمي على الأشياء. ابتسمت وقالت لي بشيء من الخبث أن الفلسفة والمنطق وجهان لعملة واحدة. شعرت بضعف موقفي فأجبتها وأنا أنفخ سيجارتي أنني أخطأت التعبير وأنني أردت القول بأنني إنسان عقلاني وليس منطقي ..
نفخت في كوب الشاي الدافئ الذي كانت تحمله وقالت لي بنبرة واثقة " أنت تخاف أن تعرف لي الحب لأنك لا تحبني ولأنك لم تجرب يوماً هذا الشعور". شعرت بأن الحديث الذي كان من المفترض أن يكون لبقاً ورومانسياً بيننا بدأ يتحول لشيء من الصراع الطبقي فأنا لم أحب يوماً أن يستعرض أحدهم علي يوماً علمه ويفرض سيطرته في الحديث على حديثي، كوني استاذ جامعي له اسمه اللامع وسلطته التي تفرضها مكانته الاجتماعية والعلمية ..
اطفأت عقب السجارة ونظرت إليها بشيء من الخبث وقلت لها بأنني اتهرب من تعريف الحب على أنه إعجاب لأنها ليست الأنثى التي لم ألمح لها مثيلاً من قبل من حيث الجمال والحضور. اعتقدت لوهلة بأنني أصبتها في صميمها عندما تحدثت عن الجمال فكأي أنثى لابد كان وأن يكون هذا الموضوع حساساً جداً بالنسبة لها، لكنها أجابتني بكل برود وهي تقرب شفتيها من طرف الفنجان .. " إذاً..!".
"إذاً" .. هل كان علي أن أعيد صياغة الحوار من أوله وأنا الذي وضعت نفسي في موقف محرج جداً بعد أن أعترفت لها بأنني أحبها، فكيف أحبها وأنا لست معجباً بها. حاولت أن أغير مسار الحديث فقلت لها وأنا أنظر إلى ساعتي محاولاً أن أعكر صفو مزاجها المعتدل .. " الحب شيء أعظم من أن نقوم بتعريفه، لكن على ما يبدو ..".. قاطعتني بإشارة من يدها وهي تطلب مني أن أشعل لها عقب السجارة الذي وضعته في فمها .. ثم عادت لحديثها البارد اللاذع وقالت لي وهي تنفخ في وجهي دخان قهرها :" أنا لا أبحث عن رجل يحبني .. أنا أبحث فقط عن رجل!".
صفعتني العبارة .. ووقعت في الصمت، كان علي أن أخفف من حدة الحديث معها حتى لا أخسرها لكن بذات الوقت كان كبريائي يدعوني أن أرد لها الصفعة صفعتين، فكرت كثيراً قبل أن أقول لها بأن عليها أن تكون أنثى بداية حتى تبحث عن رجل، لكنني كنت قد بدأت حديثي باعتراف أبله لها بأنني أحبها ..
صمتت وفكرت كثيراً بالذي دعاني حتى أقرر لها أنني أحبها، وأنا الآن على بعد سنتمترات منها أشعر بالكره، أتمنى أن أخلع قناع الاستاذ المثقف الواعي المتحضر وأنعتها بصفات بذيئة وشريرة.
كانت تراقب تلون ملامحي بصمت وهي تدخن وتنظر حولها متجاهلة الصراع الذي كنت أعيشه بيني وبينها، ثم اطفأت عقب السجارة وهمت واقفة وهي ترتشف آخر جرعة من كوب الشاي. وضعت معطفها عليها ثم اقتربت مني وقبلتني على خدي وهمست لي :" أتعمد الرحيل حتى لا ينتهي حواري معك بالحرب، فأنا امرأة تعشق الرجل الذي يجيد محاورتها".
ثم مشت مبتعدة عني والتفتت قبل أن تخرج وابتسمت. عندما ابتسمت لي من بعيد شعرت بأن الثقل الذي كان يجثو على قلبي تلاشى كشمس أيلول العابرة .. لأنها كانت ابتسامة صادقة، لا تشبه أياً من تلك الأقنعة التي كنت أخلعها وأرتديها عند كل لقاء ..
أردت أن أناديها كي أعتذر منها عن قبح أقوالي، أن أعترف لها مجدداً بأنني أحبها، لكنها ستعود وتطلب مني أن أعرف لها الحب، وهي المرأة الوحيدة التي لم أستطع يوماً أن أجد لحبها تعريفاً .. ربما كان هذا هو الحب .. كصيف أيلول العابر، لا نستطيع أن تستمع بدفء شمسه لأننا نخاف غدر الخريف، وننتظر المطر من كل سحابة حتى لو كانت عابرة لكننا لا ننتظر الدفء من الشمس!