أرسل إلي صديقي صورة - وهي التي كُتِبَ عليها عنوان هذا المقال - أراد أن أعبر عنها بأسلوبي الذي أختص به ، فرحبت بالفكرة ، وكانت الصورة تستحق أن نعبر ما بمكنونها .
وإليكم ما عبرت به عن هذه الصورة :
ذهب إلى داره بخطوات شبه سريعة ، ففتح الباب فإذا بأبويه يرحبان به فرد عليهم التحية ثم ذهب إلى حجرته وفتح بابها ، وأشعل السراج الذي كان خلف الباب ، ثم انكب على أوراقه يقلب فيها ماشاء أن يقلب ويقرأها سرا ثم يجهر بها ليتأكد من مداخل الحروف ومخارجها ، فلما إنتهى قال :
- لا تزال الأفكار غير مرتبة على الترتيب الذي عهدته لغتنا ...
فأعاد ترتيب الأوراق وبحث عن قلمه ليكتب ما كان ناقصا من كتابه ، وأخذ يدقق في النصوص وهو يعتقد أن هناك خطأ ما بالكتاب الذي كتبه ؛ فمسك بيده اليمنى ورقة وباليسرى ورقة أخرى وراح يتأمل فيهما ببصره الشاخص حتى أرهق مقلتيه وأتعب أجفانه .
وبينما هو غارق فيما كتب ، طرق أحدهم باب حجرته فأذن له بالدخول ، فإذا بأمه وقد جلبت إليه الطعام والشراب ، وقالت :
- يا بني إنك لم تأكل منذ الصباح وقد أتيت لك بطعام يسد رمق جوعك ويرُم عظمك ، فإني لا أراك على سجيتك منذ أيام قِلال ...
فرد عليها بصوت المرهق وقال :
- يا أمي ، ادعي لي بالتوفيق والسداد ...
فقالت :
- أسأل الرب أن يهديك الطريق السديد في كل أمور دنياك ، وأن يصلحك .
ورفعت يديها إلى السماء فأغلقت الباب دونها وعادت إلى حجرتها ...
أخذ الفتى يأكل مما صنعت والدته من طعام تتشنف بتذوقه الأفواه وتأنس برؤيته العين ، وظل يفكر بماذا يصنع لتهدئة فكره المتصارع والذي لا يزال الريب يخالطه ، والشك يضيع من وقته وتفكيره ...
ذهب يتصفح في الكتب التي يقرؤها لعل عقله يرشده إلى شئ عجاب ، وإلى موضوع يشاب بالعسل ، وقال :
- لئن لم تنتهي هذه الريب فلن أنام هذه الليلة وإن أرهقت نفسي وأتعبتها ...
ولا يزال يبحث ويفكر ، ينقد ويستنتج إلى أن طلع الفجر ، وبزغ نور الشمس ، وذهب الليل وظلامه وظلمته ، ولكنه لم يجد ما كان يظن من خطأ ، وعلم أن الظن لا يغني من الحق شيئا ، ولكن أصر على أن هناك ما يجعل قصته تفسد ... فحبة التفاح الفاسدة إذا وضعتها بصندوق ممتلئ بالتفاح ؛ فقد تفسد كل الصندوق وتجعل منه رائحة كريهه وطعما مريرا ، والكتب كذلك لا تقبل كل شائبة تشوبها ؛ فالخطأ وارد ولا محال منه ، ولكن الأفضل أن لا يعظُم ...
فعلم هذا وأخَذَهُ ؛ فأصبح يكتب في آخر كتبه قول الشاعر :
إن علمي يقل عند مرادي
فامح عني شوائب التقليل