تمر السنين والسنين، وتتوالى الأجيال تلو الأجيال، ولازلنا في حيرة من أمرنا حول إيجاد حلول عملية لمجموعة من الإشكاليات والتحديات والظواهر التي تحول دون انخراطنا في خضمِّ مجتمع متماسك يعرف ماله و ما عليه، ولعلي سأتطرق في مقالتي هاته إلى العقل المغربي، باعتباره جزئ لا يتجزأ من المشهد الفسيفسائي المكون لوحدة العقل العربي، وذلك نظرا لعدة عوامل متقاربة كاللغة والمنظور التاريخي والجغرافي.

أولا وقبل كل شيء، ولتحرير اللغة والمصطلحات من القيود، وجب تحديد مفهوم وماهية العقل، كونه مادة فلسفية لا تعدو أن تتلخص في منظور بيولوجي كما يعتقد البعض، وهنا أستحضر مدخل الفيلسوف المغربي، الدكتور محمد عابد الجابري، بإعتباره ملهم ملحمة العقل العربي، إذ يعرف العقل على أنه أذات للإنتاج النظري، أو منظومة للقواعد والأنشطة الذهنية المستخلصة من ثقافة معينة، على سبيل المثال، عقل الفرنسي هو منظومة قواعد وأنشطة مستخلصة من الثقافة الفرنسية...، وبالتالي فمكونات العقل المغربي هي منتوج خالص ومشترك للفكر الإنساني والفكر الأمازيغي والعربي والإسلامي، وله بعض من خصوصياته، وهذا التحليل يدفعنا بطريقة أو بأخرى إلى معترك الساحة التاريخية، لتناول بنية العقل المغربي من الناحية الكرونولوجية.

أشير هنا إلى مرحلة ما قبل الإسلام و بالتحديد إلى المجتمع الأمازيغي وما فرضت عليه ظرفيته من إنتاج و استهلاك لمجموعة من السلوكيات، وفق منظومة العشيرة أو القبيلة وما تمليه على العقل من ثقافة معينة، كطبيعة ودرجة انخراط الإنسان المغربي أن ذاك في المجتمع، وكيفية تعاطيه مع السلطة ونظرته للمرأة وللقوانين المنظمة، وتلتها مرحلة الفتوحات الإسلامية المشرقية، ليعايش خلالها الإنسان المغربي تحولات نوعية على مستوى بنياته السوسيو- ثقافية.

حينها أصبح العقل المغربي منوطاً بمحدد آخر، وهو البعد الديني، هذا الأخير الذي فرض على العقل أن ينصهر في مجموعة من القيم والتخلي عن آخرى ضمن نطاق سوسيولوجي معين، ككيفية وطبيعة الإنتاج والاستهلاك و كيفية التعايش ضمن محددات تشريعية وفقهية معينة، بعدها دخل المغرب مرحلة ما يسمى بالإنتقال من مفهوم القبيلة إلى مفهوم الدولة كسلطة مركزية، وما يتلى عليه من تغيرات في بنية العقل جرّاء التحولات الاقتصادية من نمط إنتاج القبيلة وكيفية الاستهلاك، إلى طبيعة إنتاج الدولة المتمثلة في المخزن وكيفية الاستهلاك.

ليكون بعدها للتحولات الاقتصادية في العالم وما عرفته من انتقال من النظام الإقطاعي إلى آخر رأسمالي اليد الطولي في تغيير هيكلة بنية العقل المغربي من جديد، عرف خلالها الإنسان المغربي ضغوط فكرية واقتصادية متمثلة في قوى استعمارية كالهجمات الأيبيرية وما حملته من أفكار جديدة، مرورا إلى استعمار بعض المدن الساحلية كالجديدة وطنجة .. ، ليدخل المغربي خلالها في صراع مع الحداثة الغربية المتجسدة في التحولات الاقتصادية وما أثمرت عليه من تحول في نمط عيش المغاربة ونظرتهم للحياة.

بعدها عرف المغرب مرحلة جديدة وهي مرحلة الاستعمار الفرنسي والإسباني، وما واكبه من دخول لمجموعة من الثقافات لتكوِّن بدورها مجموعة من المفاهيم للعقل المغربي في كيفية تفكيره، و دينامية الإنتاج والاستهلاك، سواء كان هذا الإنتاج فكريا أو ماديا.

دخل حينها المغرب إلى يومنا هذا سياقا ومنعطفا آخر، وهو سياق العولمة وما أدراك ما العولمة، وما تسوق لهذا العقل المغربي من قيم مادية، جعلت منه عبدا مستعبدا للحداثة والتطور.

فبنية العقل المغربي إذا هي عصارة مراحل تاريخية لا يستهان بها، لها من الإيجابيات مالها، كما أن لها وجه قبيح يجعلنا أقرب مانكون إلى ذلك المجتمع الجامد الذي يرفض أي دخيل على قناعته الموروثة.

لسبيل التعايش ضمن مجتمع متماسك، وإيجاد حلول لمشاكله العويصة ، وجب علينا أولا انتقاد طريقة تفكيرنا، فكما قال الدكتور الجابري نحن لا نمارس النقد من أجل النقد ، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي ، وبعدها وجب تغير نمط تفكيرنا، ولعلنا نتخذ العبرة من ألبرت إنشتاين حينما قال، لا يمكن معالجة المشكل بنفس العقلية التي صنعت المشكل, كما وجب عدم إستحمار هذا العقل وتعطيل ماكيناته الإبداعية بقيود تتشكل سلاسلها من تداعيات الماضي و التقاليد، والفهم الخاطئ للدين الإسلامي، مما يجعلنا نعيش في دوامة يكون فيها التاريخ يعيد نفسه، والإنسان المغربي يعيد نفسه من حين إلى آخر، العالم يتغير، استيقظوا يا نيام لنتغير.