أنا وأنت واحد - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أنا وأنت واحد

  نشر في 12 يوليوز 2018 .


أنا وأنت واحد..

هيام فؤاد ضمرة..

أنا وأنت واحد، لا فرق .. عبارة كثيرا ما نتداولها خلال الاحتكاك المجتمعي حين التعبير عن رغبة جامحة بالتنازل عن طيب خاطر عن حق هو له للآخر المتلقي، فيساويه بالمنفعة وكأنه تلقاها مثله من باب احساسه أنّ ما يسعد الآخر فهو يسعده، وأنّ ما يناله الآخر يرضيه ويتقبله، وأن هناك قناعة سارية بوجدانه أنه ما خسر شيئا حين صديقه أو أخوه أو زميله نال الذي كان يمكن أن يناله، وبالطبع ما ربح شيئا حين هو لم ينل ما نال الآخر، لكنه يحمل في يقينه أنه هو الآخر ما خسر أيضا لأنه يرى أنهما روح واحدة في جسدين.

وهذه العبارة تترجم مصطلح الإيثار وهي صفة نبيلة تعتبر صفة لتقليد راسخ في القيم يختص تقريباً بثقافة جميع الشعوب وجميع منتسبي الأديان، لأن الإيثار من سمو أخلاقي مكين يمثل معاقد الترابط والتعاضد، وهي عكس الأنانية غير المستحبة تلك التي تجرد الانسان من معاني الخير والعطاء، فمن صفة العطاء الحسنة أن النفس تمتلك دافعية داخلية لأن تمنح عن طيب خاطر في كثير من الأدوار والمواقف، والإيثار غير الوفاء أو أداء الواجب، لكنها تدخل في معنى التضحية والالتزام الأخلاقي، وتدخل عرين الغيرية على النفع من قبيل التعاطف.

والإيثار عند الخصاصة من القوم هو بذل المعروف والجود لمن هم أقل حظاُ وأكثر بالمبذول نفعا، وهي ترجمة لعلاء النعم وسمو الحكم، وقد تدخل أيضاً في جانب اللباقة والكياسة المشتركة بأسلوب الإيثار، وهي أخلاق تعتمد على الإخلاص بالنوايا وصدقها، ولا تعني بأي حال احتيالاً أو استغلالا لمنافع في المقابل، بل تتعمق بالنفس البشرية وتحليلاتها الكيماوية في العقل البشري، فالأخلاق عماد تقدم الشعوب وارتقاءها، فالجماعات البشرية تقويها روابط تماسكها وتعاضدها وتمثل الأخلاق مرابط قوتها وعزتها، فالأخلاق هي الأداة الركيزة التي تعتمد عليها استمرارية الأمم أو انهيارها.. وقالوا في ذلك " الأمة التي تنهار أخلاقها ينهار كيانها".

وقد أبدع الشاعر أحمد شوقي حين قال شعرا حكيماً..

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم === فأقم عليهم مأتماً وعويلا

وقد يشتمل المعنى على إنكار الذات فيما لا يؤذي المتنازل عن حقه، كمثل الانسحاب الإيثاري والتخلي عن أمر في سبيل تحقيق ما هو أسمى. أهمها التصالح مع النفس والوصول إلى الراحة النفسية، ويعتبر الإيثار أكرم منزلة وأكمل أنواع الجود، وهو لا يكون إلا من أصل خلق زكي نشأ في بيئة مشبعة بحسن الأخلاق ممن تبوءوا منزلة عالية من الإيمان على ما جاء بقول الله عز وجل في محكم آياته في القرآن الكريم ..

"والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" صدق الله العظيم- سورة الحشر 9

وصفة الإيمان تُذكر للذي به خلق عال ونفس معطاءة ولسان ذاكر نظيف لا يؤذي، لأن الدين أخلاق قبل العبادات، ومن سمات المؤمن خصائصه فيما يحمل من سلوك أخلاقي، وينعكس على تصرفاته ومنطقه ومعاملاته، ومن خصائص كليات المؤمن الأخلاقية الإيثار وهو عكس الشُّح.

فيما أن صفات غير المؤمن الأثرة، بأن يؤثر نفسه على غيره، ويؤثر غناه على فقر الناس، فيستغل حاجاتهم، ويستغل ضوائقهم، ويستغل مكامن ضعفهم، ويبني ثرواته على حساب غيره من الناس بما فيهم الفقير المعدم.. فيقول الله تعالى في هؤلاء..

" فيؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" الحشر 9

والمعطاء من سعة وغنى فهذه مؤاثرة، أما المعطاء من قليل يقتسمه مع غيرة فهذا كرم يفوق المؤاثرة بكثير، وفي ذلك يؤكد الحديث الشريف بقوله:

" أُحِبُّ الأسخياء وحُبي للفقير السخي أشد، وأُحِبُ الكُرماء وحُبي للفقير الكريم أشد"

وفي حديث آخر.. " ربَّ درهم يسبق ألف درهم"

أنا وأنت واحد.. هي مرآة الضمير التي إن عدلت ساوت، وإن فجرت أذت وتسحبت، إننا معاً في عالم تتقاذفه المتغيرات وتقلب حاله تسحّب الإنسانية من وكرها الطبيعي في العقل الواعي المتزن، وعلينا أنْ نتبادل الأدوار ونحْبُك معاً ثوب إنسانيتنا بما يناسب مقاساتنا الطبيعية، ولا بد في النهاية أن نتبادل الأدوار ونشعر بشعور الآخرين فربما نكون نحن في مرة وفي أخرى نكون هم، فلما لا نكن أنا وأنت واحد ليس يقسمنا الغرور والمطامع وغلبة الأنا الأوحد، فتعال نتقاسم ما يمكننا مقاسمته لنفيد ونسفيد ويصبح الحال لا يغلبه الوعيد.

لا تكن أبداً أنا أنا، وأنت أنت، بل كن "أنا وأنت واحد لا فرق" مع حبيبك، مع صديقك، مع زوجك وشقيقك وشريكك، مع كل من يحتاجك وكل من يعتمد عليك، لا تكن مخيباً للأمال، بل كن بانياً لأخلاق الإيثار بكل شيم وشهامة واقتدار.

قد تكون الطريق واحدة من حيث المسافة في الذهاب والإياب، لكنها لا تكون كذلك واحدة في الصعود والهبوط، لكنك حين تصل القمة وتتربع على مقامها العالي، سيحلو لك الاسترخاء وانتشال ملامح السعادة من داخلك، ومن أعمق أعماقك، حينها ستشعر بالفوز والانتشاء.

وما أجملها ثقة بالنفس تمنح صاحبها شعور القدرة على كل شيء ايجابي في المنح والعطاء، يمنحك على أثره السعادة والرضى، ويساعدك على الاستقرار النفسي، والرقي الروحي وإشباع النفس بالرضى، ومن أستضاءت نفسه بالأخلاق الساطعة والأعمال العظيمة والسلوك السليم والتفكير القويم، فقد تحسس آدميته للعمق، من أعماق عقل متزن خادم لصاحبه، وقلب سعيد متسيد راحم له ولغيره، فالإنسان مستخلف في الأرض وإنسانه، وهو بذلك يحتاج لما يلبي نداء إنسانيته واحتياجاتها النفسية والعملية، فالأديان جميعها ترتكز على قيم وأخلاق أكثر من مجرد عبادة، لأن واقع الايمان عبارة عن عبادة ومعاملة ومنظومة أخلاقية تسمو وتعلو بالإنسان وإنسانيته.

في هذا الزمن العجيب والغريب مع دخول التكنولوجيا في التكوين الأخلاقي للإنسان، فإنها باتت كالدود الناخر بالجسد، تعمل كما الخدوش في النفس وتعيقها عن تصريف المرتكزات الأخلاقية على ما يجب، وهنا من الضروري بمكان أن يكون الإنسان مالكا لزمام نفسه محددا أخلاقه مع نفسه ومتحكماً بميوله وهواه، وانطلاقا من هذا المنظور، فالاشتغال على مجال القيم والأخلاق تحكمه مجموعة من الاعتبارات، لتصريفه كفعل مجتمعي من خلال البث المستمر وغير المنقطع، ما بين فترة التربية الأسرية منذ بدايات الطفولة، وتربية الفترة التعليمية الممتدة من البدايات حتى نهايات التلقين الجامعي، ومن ثم تربية ما بعد النضوج ونضوج النضوج، فالإنسان يحمل في طبيعته الضعف في مواجهة بوادر الانزياحات الأخلاقية بالمناسب وغير المناسب، مما يوقعه بالمحظورات، وعليه تحمل مسؤولية نفسه في تجديد الدعم الذاتي بلا انقطاع. 


  • 3

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 12 يوليوز 2018 .

التعليقات

Salsabil Djaou منذ 6 سنة
ما أروعها من نصائح و ما أجملها من شروحات ، ما أحوجنا إلى السمو بأخلاقنا حتى نصل إلى الإيثار ، وما أجمل أن نقدر أحبابنا حتى نؤثرهم على أنفسنا ، نشكرك على مقالك ، نتعلم منك أستاذتنا الفاضلة ،تقديري و مودتي .
1
hiyam damra
بارك الله فيك جهد المتابعة وأمانة التفاعل وثقافة الأفق العالي.. تحية احترام وتقدير لهمة الأمانة فيك فأنت علم بطبيعتك الراقية
Salsabil Djaou
رفع الله قدرك أكثر و أكثر وجعلني عند حسن الظن ، احتراماتي سيدتي الفاضلة.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا