أنا والليل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أنا والليل

  نشر في 21 أكتوبر 2016 .

خرج من المنزل على عجل، بعد أن استطاع أن ينتشل نفسه بصعوبة من جو غرفته الغارقة حينها بألوان الغروب القاتمة، ومن جو البيت الموبوء ؛والذي يخيل اليك إن رأيته من بعيد أن نسيم الموت قد ارخى بعض أسداله عليه قبل حين؛ فكان صاحبنا قبل خروجه يجد صعوبة في التنفس وعجز في ادراك العالم حوله، بوجهه الشاحب الأبيض الممتزج بقليل من الزرقة تحت عينيه تضفي على محياه طعم المرض والعذاب، وتبرهن إن صح القول أنه ظل مختبئا في غرفته لمدة طويلة، مدة كافية لتجرع معنى الوحدة والغربة وبعض من ألوان الإنطواء والقلق، وسيتذكر حالته تلك بعد مدة وسيعتبر خروجه من جحره ذاك انجازا، توقف لوهلة استجابة لشعور منه أنه قد نسي شيئا ما ولكنه لم يطل التفكير وتابع سيره، فهمه الوحيد أن يبتعد عن البيت.

كان الجو باردا رطبا، فكان نسيمه في ارتطامه بالوجه ينسيك الصبابة ويذكرك بيد الأم الحنون، ولكن صاحبنا لم يهمه كم كان النسيم منعشا ولا الهدوء الصارخ الذي يعم القرية الصغيرة المشتتة المنازل، ولم يشعر حتى بسدول الظلام، ولا حتى خاف من أن يتعتر بحجر أو يهجم عليه كلب ظال خارج من العدم، فقد كانت تتخبطه العديد من الخواطر والأفكار ما جعله ينغمس بكليته السوداء في ظلمة الليل السوداء، بخطى لا إرادية تفتقر للتوازن والثبات على ثنايا المرج الأخضر.

في لحظة أحس بنظرة ثاقبة تخترق مسام جسده النحيل وتحدث به رعشة من عالي رأسه حتى أخمص قدميه، في ذهول سار يبحث بعينيه في كل صوب عن صاحب النظرة اللاذعة فاستقر بصره على بومة صغيرة مستقرة على سلك كهرباء يبعد عنه بضع أقدام، فوجدها تتفرس فيه بعينيها الكبيرتين ولربما كانت تتبع حركاته منذ خروجه من البيت، رشيقة في جلوسها دون خوف ولا مهابة رغم التفاته لها، فظل يتأملها ويقول في حيرة "كأن عين حالها تقول: من أنت يا هذا الذي يتجرأ على دخول مملكتنا نحن كائنات الليل...أولا تقدر احترامي لكيانك نهارا...وكم أنت غريب يا هذا...أتدخل عالما ملئه السكينة والهدوء ولا تزال مطئطئا رأسك حتى حِينِنا هذا...أأنت خنزير حتى لا تستطيع رفع ناظريك للفضاء حولك...إني أرثي على حالك يا هذا".

قال خاطرته الأخيرة ومعها طارت البومة في رشاقة وتلاشت في الظلام، ظل متسمرا في مكانه وتسارعت دقات قلبه في لحظة، وأحس برعشة غريبة في ظهره، والتمس يديه فوجدهما باردتين، وسرعان ما ارتد اليه وعيه فوجد نفسه وحيدا وجزءا لا يتجزء من السواد، حاول أن يستبصر الطريق لكنه لم يستطع لأن كل ما حوله صار حالك الظلمة، وهنا تذكر الشيء المفقود من جيبه؛مصباحه اليدوي؛ فصار كالإبرة في كوة القش أو كغريب في مجرة واسعة، هو والليل؛لأول مرة في حياته يتخذ رفيقا ولو بغير ارادته؛ فكانت هذه اللحظة التي يتذكرها طول مستقبله ويعتبرها نقطة الإنعطاف العظيم وخصوصا الخاطرة؛أي نعم، تلك الخاطرة التي اجتمعت خطوطها في عقله تباعا في لحظة حيرته وهذيانه تلك؛.

قال لنفسه بعد أن قل روعها: "لأول مرة في حياتي بعد ولادتي لا أستطيع أن أقدم أو أأخر لنفسي شيئا...كم هذا عجيب...ساكن أنا متحرك العالم المختبئ في الظلام، لا أملك حيلة ولا حتى سلاحا أدافع به على نفسي ولو من بعوضة صغيرة، جسدي يرتعش خوفا من المجهول من حولي...ولماذا قد أرتعش؟ أن جبان؟، كم أنا الان فقير وكم أتمنى ولو عود ثقاب أو ضربة برق أستبصر بها طريقي ولأعودن إلى بيتي الدافئ لا محالة، لعلني لا زلت حيا..نعم إني لا زلت حيا ولكن أحس بنوع من الفناء يتخطفني...يتغمدني وفي ذلك أحس بطمئنينة عذبة صافية كالبلسم، أجل إني فان الان في كون الله وحيدا...أنا والمكنونات المختبئة في العدم". قال كلامه ورفع ناظره للسماء فوجدها مضاءة مزينة بلالئ تشع كل واحدة منها على حدة فارتسمت على وجهه ابتسامة كانت كافية لتخلصه من رعبه وتحُفَّه بالدفئ، وكم كانت فرحته أشد عندما سمع صوت المنادي ينادي من بعيد...



  • 1

   نشر في 21 أكتوبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا