بيانست (٣) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

بيانست (٣)

عندما نقتل البراءة بكل حب ..

  نشر في 11 يونيو 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

                                    نحن لا نتذكر أياما .. نحن نتذكر لحظات ..

                                                     (تشيزاري بافيزي)

                          We do not remember days, we remember moments ... 

                                                         (Cesare Pavese)

                                                         -إنكسار-

                    ثمانية آلاف و سبعمائة و أربع و سبعون يوما على الأرض ..

1) اللقاء ..

- أنا علطول بقول مافيش غير فول ست الحبايب اللي بتدمسه بإيديها بلا فول علب بلا بطيخ

إبتسمت أمهما و هي تراقب (رهف) تواري لقيمة داخل طبق الفول قبل أن ترفعها نحو فمها مملوءة بحبيباته البنية و تلتهمه في نهم و (فرح) شاردة في طبقها تقلب محتوياته بالملعقة

- (فرح) .. !!

نادتها أمها فلم تجب و ظلت شاردة في طبقها همت أمها بفتح فمها لتنادي عليها مرة أخرى لكنها تراجعت و أغلقت فمها قبل أن تطلع إلى (رهف) التي ابتلعت ما في فمها و التقطت منديل ورقي من فوق المائدة .. كورته في قبضتها ثم ألقت به نحو (فرح) .. وجلت (فرح) عندما ارتطم المنديل بوجهها و نظرت ناحية (رهف) بنظرة لائمة تحولت الي نظرة مبتسمة عندما شاهدت (رهف) تضحك و تقول

- ماما عاوزة تطمن ان الفطار عاجبك .. شايفاك مابتكليش

نظرت (فرح) إلى أمها مبتسمة قبل أن تقول ..

- أيوة يا ماما ؟؟

- سرحانة و ما بتكليش

- مفيش .. مانمتش كويس الليلة اللي فاتت فا حاسة ..

قطعت عبارتها عندما شاهدت الصهباء تقف خلف أمها و تصرخ عليها صرختها الصامتة بوجهها المصمت .. انتفضت في رعب و أمسكت بيديها المائدة بشدة لتمنع نفسها من القفز عن مقعدها .. أغلقت عينيها بقوة رجت قلبها و جعلت نبضاته تتسارع اعتراضا.. أخذت تتنفس بسرعة حتى أحست بيد توضع على كتفها ففتحت عينيها لتجد أمها واقفة بجوارها و (رهف) تنظر إليها من على مقعدها و القلق يغشى ملامحهما.

- مالك يا (فرح) ؟؟ انتي كويسة يا حبيبتي ؟؟

سألتها أمها و هي تتطلع إليها بقلق .. هزت (فرح) رأسها بنعم و هي تفتح عينيها لتجد أن الصهباء قد إختفت كالمعتاد .. ابتلعت ريقها .. قبل أن تجيب كاذبة:

- الصداع .. الصداع جالي فجأة ..

نظرت نحو طبقها هاربة من أعين أمها و أختها .. أمها ربتت على كتفها و عادت إلى مقعدها و هي لا تزال تتطلع إليها في قلق .. أمسكت (فرح) بالملعقة تعيد تقليب محتويات طبقها حتى تختلي بأفكارها .. وجه الصهباء المصمت الصارخ بدء يطارد يقظتها الآن .. لا تعلم إلى متى ستستطيع كتمان ذلك الأمر .. بالرغم من توترها و خفقان قلبها الشديد غاب عقلها في ذكرياتها مرة أخرى .. رأت أمامها (خلود) جالسة تعزف الپيانو قبل أن تلتفت إليها ثم ..

                               ******

- إسمك إيه يا حبيبتي ؟؟

قالتها (خلود) و هي ما زالت واقفة تتأمل (فرح) التي كاد عقلها يغيب في إخراج الإيقاع في كلام المعلمة و لكن الپيانو الكامن في أمام عينيها ملأ مجال بصرها و أعماق سمعها و خلايا عقلها .. إحتاج الأمر منها دقيقة ظنت خلالها (خلود) أن هناك خطبا بها قبل أن تجيب (فرح) بصوت منخفض:

- (فرح) .. (فرح حسين) .. إيه ده ؟؟

قالت (فرح) المقطع الثاني بصوت عالي و واضح و هي تشيرإلى الپيانو و عيناها متسعتان إنبهارا .. كانت من إحدى اللحظات النادرة التي تستجيب فيها لمن حولها .. تعجبت (خلود) من طريقة سؤال (فرح) قالت و هي تنظر إلى البيانو:

- و مصرية كمان .. ده إسمه بيانو .. عمرك ما سمعتيه قبل كدة ؟؟

قالت (خلود) كلمة پيانو بالطريقة العربية المعتادة التي لا تفرق بين الباء الخفيفة و الباء المشددة للأسماء و الكلمات غير العربية .. هزت (فرح) رأسها و هي تتأمل الپيانو قبل أن تخطو داخل الحجرة و تقف أمامه منبهرة متأملة تفاصيله .. قطع بيضاء تتوسطها قطع سوداء .. مدت يدها و ضغطت على أحد القطع البيضاء فانبعثت نغمة في أجواء الغرفة جعلها تشهق و ترفع حاجبيها بدهشة .. أما (خلود) فشعرت بداخلها أن إهتمام الطفلة بالپيانو غير معتاد .. ليست مجرد طفلة تقف أمام لعبة جديدة بالنسبة لها .. بل .. بل .. لم تستطيع وصف ما تراه .. لكن بالتأكيد (فرح) ليست طبيعية في طريقتها .. لم تكن تتعامل مع الأطفال إلا في مجال ضيق لا يخرج عن أولاد أختها الذين مازالوا في مرحلة الحبو أما تلك السن فلم تتعامل معها مباشرة من قبل .. لكن ذلك لم يمنعها أن تجرب و تتخذ خطوة مبادرة نحو (فرح) .. مالت عليها بجزعها لتبلغ مستوى رأسها و مدت يدها من وراء ظهر (فرح) و عزفت جزء من مقدمة تحفة (خواكين رودريجو) كونشرتو أرنخويز (Joaquín Rodrigo - Concierto de Aranjuez) فشهقت (فرح) شهقات سريعة و إلتفتت برأسها إلى (خلود) فاغرة فاها و عينيها متسعتين على أقصى مدى .. ألاف علامات الإستفهام غزت عقلها فجمدت لعبته الأثيرة .. لم تستطيع متابعة النغم لتمارس لعبتها .. تلك النغمات .. إقتحمت عقلها و حاصرت لعبتها في ركن صغير جدا ..

- إزاي .. إزاي بيطلع صوت كدة ؟؟

قالتها و هي تبتلع ريقها إنفعالا و حماسا .. إبتسمت (خلود) و هي ما زالت مستمرة بالعزف ثم قالت:

- لو عايزة تعرفي يبقى تعالي لفريق الموسيقى .. هاعلمك ..

عادت عيني (فرح) تتابعان يدي (خلود) و هي تعزف على الپيانو في سلاسة و مهارة و في عقلها الصغير ظهرت لعبة جديدة .. ربط النغمات بمفاتيح الپيانو .. توقفت (خلود) عن العزف مع صوت جرس المدرسة معلنا إنتهاء وقت الراحة فقالت و هي تلتقط حقيبتها مستعدة للذهاب إلى حجرة المعلمات:

- يلا يا (فرح) روحي على فصلك و أشوفك الأسبوع الجاي إن شاء الله

إستمرت (فرح) تنظر إلى الپيانو و مفاتيحه كأنها تمثال .. لا ترمش بعينيها و لا تظهر منها أى حركة .. نظرت إليها (خلود) في تعجب من سكونها و عدم إستجابتها فكررت النداء بصوت أعلى:

- (فرح) .. (فرح) يالا على فصلك ..

إستمرت (فرح) في سكونها و لم تجيب أو تتحرك .. أدركت (خلود) أنها حقيقة أمام طفلة غير طبيعية و لم تعرف إن كان عليها الصياح و إستخدام بعض السلطات كمعلمة أم اللين و مسايرتها .. مدت (فرح) يدها إلى مفاتيح الپيانو و بركاكة حاولت مضاهاة اللحن الذي سمعته من (خلود) منذ لحظات .. خرج متقطعا .. ركيكا .. مملوء بالنغمات الخاطئة .. لكن .. كان مذهلا بالنسبة لطفلة تعزف للمرة الأولى على الپيانو .. مذهلا بالنسبة لشخص يعزف للمرة الأولى عامة .. جاء الدور على (خلود) هذه المرة لتتسع عينيها إندهاشا و تحدق في (فرح) .. معرفتها الفائقة بالپيانو و تعلمه جعلها تدرك أن ما حدث ليس طبيعيا بالمرة .. نعم خرج اللحن مشوها إلى حد ما .. لكن بالنسبة للمرة الأولى و بلا تعليم مسبق كان مذهلا بكل المقاييس .. البالغين و الذين يستطيعوا السيطرة على حركاتهم و اتزانهم لا يستطيعوا عمل هذا من أول مرة .. و لا حتى هي نفسها مع موهبتها إستطاعت عمل هذا من أول مرة .. وضعت حقيبتها مرة أخرى جانبا و و مالت مرة أخرى لتجاور رأس (فرح) التي غابت تماما في ما تفعله .. أمسكت (خلود) يدي (فرح) ففزعت الأخيرة و بدا أنها عادت من عالم أخر إلى عالمنا .. إستخدمت (خلود) يد (فرح) لتعزف بها المقطوعة مصححة النغمات التي زلت منها .. انحبست أنفاس (فرح) و هي ترى يديها تتحرك بحركة يد أستاذتها و أناملها تداعب مفاتيح الپيانو .. ذهب عقلها كله مرة أخري يربط ما بين المفاتيح و النغمات .. مواقعها .. درجات نغماتها .. شدتها و غلظتها .. مع عقلها الذي كان يلاحظ خصائص الصوت بدقة كان الپيانو بالنسبة إليها ملعبها الجديد .. فقط القواعد مختلفة عن لعبتها الأولى .. لكن مازالت لعبتها.

إسترقت (خلود) النظر إلى (فرح) و هي تعزف معها .. تلك النظرة التي في عيني (فرح) و هي تتأمل مفاتيح الپيانو .. تشعر بنبضات قلب (فرح) المتسارع يتواصل من ظهرها إليها .. تلك الفتاة مختلفة بالتأكيد.

- (فرح) !!..

إلتفتت كلتاهما فزعتين .. (خلود) تركت يد (فرح) فزعا من النداء المفاجئ .. (فرح) فزعت من ترك (خلود) يدها و توقف الموسيقى .. كانت (المديرة) تنظر إليهما معا عند مدخل الحجرة .. و قد أثار إندهاشها وجود (فرح) في هذا الوقت و في هذا المكان .. و أثار إندهاشها أكثر وجودها مع (خلود) تعزف معها ..

- البريك خلص .. عفصلك يا (فرح) ..

قالتها المديرة بلهجة آمرة .. نظرت إليها (فرح) قليلا ثم تركت الحجرة و عينيها معلقتين على الپيانو .. نظرت المديرة إلى (خلود) ثم قالت:

- ما ظنيت انك هتبدي الشغلة الحين .. إيش حصل ؟؟

ردت (خلود) في هدوء مشوب بالاثارة و هي تنظر إلى مدخل الحجرة حيث غادرت (فرح):

- أنا كنت حضرتك بجرب الپيانو لاقيت البنت دي واقفة و بتتفرج .. بعدين دخلت الحجرة و حبت تجرب الپيانو .. الغريب ...

صمتت للحظات تفكر نظرت خلالهم إليها المديرة متفحصة قبل أن تكمل:

- الغريب أنها حاولت تقلد المقطوعة اللي كنت بعزفها .. ماعزفتهاش بالضبط لكن عزفها بالنسبة لأول مرة كان مذهل .. ماعندهاش فكرة عن الپيانو و لا العزف و ما كنتش حتى عارفة إسمه .. بس تقريبا .. تقريبا قلدتني ..

- قلدتك ؟؟

- بقول لحضرتك تقريبا .. بس كان شئ غريب بالنسبة لي ..

صمتت المديرة و هي تتطلع إليها .. ثم طلبت منها أن تتبعها .. حملت (خلود) حقيبتها و سارت ورائها حتى وصلا إلى حجرة الأخصائية النفسية .. تفاجئت (خلود) بأنها (إلين) جارتها الأردنية .. تكلمت معها المديرة بضع كلمات ثم قالت:

- (إلين) هاتجولك على شي ..

تركتهم و إنصرفت إلى مكتبها في حين إبتسمت (إلين) إلى (خلود) و دعتها للجلوس وسط أندهاش (خلود) و تعجبها و كان أول ما قالته فور جلوسها:

- هو في أيه .. أنا مش فاهمة حاجة ..

إبتسمت (إلين) و رفعت سماعة الهاتف و هي تقول:

- تشربي إشي الأول .... شاي ؟؟ أحمر و لا أخضر ؟؟ ألووو .. 2 ريد تيي پلييز ... سكر ؟؟ وذاوت شوجر .. ثانكس ..

وضعت سماعة الهاتف و نظرت إلى (خلود) و قالت في لهجة هادئة:

- احكيلي شو صار .. أنا ما فهمت كتيير من المديرة ..

أخذت (خلود) نفسا عميقا ثم قصت عليها ما حدث فكان رد فعل (إلين) هو التعجب:

- شو .. (فرح حسين) .. عجيبة !!..

- مش فاهمة إيه المشكلة ؟؟

قالتها (خلود) في عدم فهم في حين ضحكت (إلين) ثم قصت عليها حالة (فرح) و مستواها طوال السنين الماضية .. قصة والدتها و أباها .. قطع القصة قدوم الشاي ثم إستكملت القصة حتى أصبحت (خلود) تعرف كل ما تعرفه (إلين) عنها ..

- و عشان هيك المديرة مستغربة .. أول مرة (فرح) تتفاعل مع إشي .. طبعا (فرح) حالة خاصة عنّا في المدرسة لجل خاطر والدها الله يرحمه و تقدير المديرة لإلٌه خلّاها مهتمة ب(فرح)

- هممم .. و انتي إيه رأيك شخصيا في حالتها ؟؟

- حالة (فرح) غريبة شوي .. أعراض مختلطة بين إنسحاب و توحد ..

- و اللي هما إيه ؟؟ أنا ماليش في علم النفس .. أسفة

قالتها و هي ترشف رشفة من كوبها في حين أخذت (إلين) نفسا عميقا و بدأت كأنها تشرح في محاضرة:

- الإنسحاب أو ال(Social Withdrawal) هو عدم التفاعل اجتماعيا مع الآخرين و النزعة للانطواء على الذات والابتعاد عن المواقف اللي تسبب الصراع او عدم الارتياح أما التوحد أو ال(Autism) فهادا اضطراب فى النمو العصبي بيسبب ضعف فى التعامل الاجتماعي و ضعف الاتصال اللفظي مع الغير و أنماط سلوكية متكررة

- هممم .. كلام مهم فعلا .. يعني ايه ؟؟ بالعربي لو سمحت .

ضحكت (إلين) بشدة حتى دمعت عيناها ثم قالت

- Sorry .. حكيتلك من الكتاب -إعتدلت في جلستها ثم شبكت أصابعها امامها على المكتب- حالة الإنسحاب معناها زي ما بتحكوا بالمصري الشخص بيبعد عن الناس و ما بيكون بده يتعامل معهم .. نتيجة خجل .. مشاكل أسرية .. أي إشي تكون النتيجة إنه بيتجنب الناس و يعيش منعزل .. أما التوحد فهادا مرض بيجي نتيجة مشاكل جينية و عصبية فى المخ بتخلي الطفل اللي بيجيله عايش فى عالم لحاله و بيبعد عن الناس اللي حواليه .. عقله بيخلي تفاعله مع الناس حواليه غير الطفل الطبيعي بيشوف كل اشي بمنظورمختلف.

- ما ينفعش يكون الإتنين مع بعض ؟؟

- لا هادا إشي و هادا إشي تاني .. الأول نفسي و الثاني عقلي

- بس أنا ماحستش أنها .. يعني .. متخلفة .. فاهماني ؟؟

- أه و مين قال أن اللي بيعانوا من المرض هادا مش عباقرة .. اللي عنهم توحد بيعملوا إشي إسمه الانماط السلوكية المتكررة .. الطفل بيكون عنده انجذاب لإشي حواليه بيركز فيه كتير لحد ما يبقي عبقري فيه من غير مجهود .. فى حالات بيقدروا يحلوا ألغاز فى ثواني .. فى حالات يقدر يعمل عمليات ضرب و قسمة لأرقام معقدة من غير ألة حاسبة و فى ثواني في حالات بيبرعوا فى الرسم .. مش يرسموا بنفسهم طبعا بس بيقلدوا مناظر موجودة و بتفاصيل غير عادية .. غالبا لما بنعرف إهتمام الطفل في أي إتجاه بتبدأ إستجابته و تفاعله يزيد .. أنا شخصيا كان رأي ان (فرح) عَنْها حالة نفسية .. رأي الفترة الجاية هنخلي (فرح) تتعامل معاك أكتر .. يعني ممكن يكون مجيك هون و تعليمك سبب في تحسين حالتها

- شعرت (خلود) بدلو من الماء المثلج ألقي عليها في ليلة باردة من شهر يناير مع كلمات (إلين) الأخيرة فارتجفت و قالت في إنفعال لم تستطع إخفائه:

- يعني المفروض أعمل إيه مش فاهمة

فكرة تعليم الأطفال عامة كانت كركوب لعبة القطار في مدينة الملاهي ترعبها و توترها و لعل ذلك سبب نوبة الفزع و القلق التي هاجمتها .. أما تعليم طفلة ذات احتياجات خاصة فهو القفز من القطار نفسه و هو يتحرك .. أحست (إلين) بإنفعالها و فهمته فقالت في لهجة هادئة لتطمئنها:

- أنا ما طلبت منك تعالجيها أو تابعي حالتها .. بس علميها الپيانو زي ما عملتي اليوم .. و منشوف النتيجة و مدي إستجابتها .. أنا بتابع حالة (فرح) بنفسي .. و هتابعها معك

تراجعت (خلود) في مقعدها و نظرت إلى (إلين) نظرة تحمل عدم إرتياح و إستسلام في نفس الوقت قبل أن تقول:

- عندك أي حاجة أفهم بيها أتعامل معاها إزاي ؟؟

- بتحبي القراءة ؟؟

- مش قوي لكن هاقرأ اللي هاتدهولي

قامت (إلين) إلى مكتبة خلفها تحمل بعض الكتب و سحبت كتابين منهما و أعطتهما ل(خلود) قائلة:

- هادولا يشرحوا كتير عن حالات التوحد و الانسحاب .. لكن مثل ما حكيتك .. (فرح) حالة خاصة ..

أخذت (خلود) الكتابين و خرجت من عند (إلين) إلى حجرة المعلمات .. جلست معهم .. تعارفت إليهم .. لاحظت تحفظ (سحر) معها كأن لسان حالها يقول – جبتك هنا و دوري انتهى .. انتي مع نفسك- لم تهتم .. فلم يكن في حسبانها منذ البداية الإعتماد على أحد .. أياما عصيبة في إنتظارها .. لا عائلة حولها يشجعونها .. لا صديقات حتى الآن و إن كانت (إلين) تبدو أيسرهم لتصبح صديقتها .. شعرت بروحها مثقلة و بالكآبة تجثم عليها .. أخذت نفسا .. فتحت إحدى الكتابين .. و دفنت كآبتها في صفحات الكتاب.


2) إثنى عشرة عاما ..

لم تعرف (فرح) وقتها ما يدور حولها .. فقط فوجئت بأن ما إستحوذ إهتمامها مؤخرا

-البيانو- أصبح مسموحا لها أن تلعب عليه .. و تلك المعلمة الجديدة .. تسمح لها في أي وقت ان تأتي إلى تلك الحجرة لتجلس عليه و تداعب مفاتيحه .. المعلمون لا يمانعون .. المديرة لا تمانع .. أمها لا تمانع .. لا أحد يمانع !! .. أصبحت تلك اللعبة الجديدة مسموح بها بمباركة الجميع .. هجرت حديقتها السرية و أخذت تقضي الوقت تُمارس اللعبة الجديدة .. قلت ساعات هروبها إلى داخل عقلها و و أصبحت تقضى أوقات أكثر في عالمنا .. العجيب أنها أصبحت تلاحظ أشياء لم تكن تلاحظها من قبل .. الأطفال الأخرين يغارون منها لأنها تترك الفصل وقتما تأتي معلمة الموسيقى و تذهب معها و هم لا !! .. المعلمون ينظرون إليها في تعجب و يبتسمون لها مشجعين .. أمها سعيدة بها .. لا تعرف ما مصدر هذا التغيير .. هي فقط تمارس لعبة جديدة كسابقتها و لكن تلك اللعبة يبدو أن الجميع يشاركونها حبها هذه المرة .. لأول مرة منذ سنوات بدأت لعبة تنغيم الكلمات و الجمل تصبح بلا جدوى بجانب لعبتها الجديدة .. كانت مضطرة إلى سماع ما تقوله المعلمة لتعرف كيف تصبح أكثر قدرة على ممارسة هذه اللعبة .. و إنعكس هذا على أدائها في الدروس الأخرى .. فوجئت بأنها تستطيع مشاركة الطلاب ما يفعلونه من الإستماع إلى المعلمين و إجابة أسئلتهم .. فقط كانت تشعر بالملل أحيانا و الرغبة إلى العدو إلى ملعبها الجديد .. و في النهاية أغلقت أبواب حديقتها و قلعتها و حملت شغفها بالنغمات و قررت أن تتذوقها مع معلمتها الجديدة

بدأت (خلود) تشعر بالميل إلى تلك الطفلة الجميلة البريئة .. شعرت أنها تتعامل مع كائن يحمل كل براءة العالم و نقاوته و عذوبته .. كان الأطفال الأخرين بشقاوتهم و مشاغبتهم و عنادهم و كذبهم و ... و ... و .. كل الصفات التي تفوق في كثير من الأحيان قدرتها على التحمل .. تعجبت كيف يتحملهم أهاليهم أو معلميهم الأخرين .. يمكن بسهولة أن تتحول إلى سفاح مختل من التي كانت تراهم في قصص (الكوميكس) (Comics) بعد التعامل مع هؤلاء الأبالسة الصغار لمدة وجيزة .. و لكن (فرح) كانت شئ أخر .. أحبتها كما تحب أختها الصغيرة و إن لم تكن لها أخت صغيرة من قبل .. ضمتها لفريق المدرسة الموسيقي بالطبع .. و إختارت (بصعوبة) سبعة أطفال أخرين يملكون الحس الموسيقي .. لكن رغما عنها و مع المتابعة النفسية من (إلين) أحست أنها تعطي (فرح) أكثر .. تحب الجلوس معها .. تحب إنبهارها و متابعتها لما تعلمه لها .. قالت لها (إلين) يوما و هن جالسات في حجرتها يتحثون و يأكلون بعض حبات (الترمس) الذي تعشقه (إلين):

- انا خايفة من تعلقك الزايد ب(فرح) انتي عديتي مرحلة حب معلمة لتلميذتها ..

لم ترد (خلود) كانت تعرف أن (إلين) محقة .. لكنها لا تستطيع السيطرة على حبها هذا .. ذلك الملاك الصغير يستولى علي مشاعرها و قلبها .. قرأت عن قصة الطبيب (ثيودور إف. ستودارد) (Theodore F. Stoddard) و كيف أحبته تلك المعلمة (السيدة طومسون) (Mrs. Thompson) و ساعدته على تخطي وفاة والدته و إنسحابه الإجتماعي إلى أن أصبح تلميذ نجيب ثم لم يلبس أن أصبح ذلك الطبيب صاحب أشهر أقسام علاج السرطان في أمريكا .. أحست هي بمشاعر السيدة (طومسون) نحوه .. تفهمت تماما حبها له و حبه لها .. بكت مرارا وهي تقرأ كلماته لمعلمته -رائحتك تشبه رائحة أمي- ..

- دووو .. رييي .. ميييي .. فاااا .. صووول .. لاااا .. سيييييي .. دووو ..

يردد الأطفال ورائها بأسلوبهم نغمات السلم الموسيقي و هم يهزون أجسادهم أماما و خلفا كأنه جزء من طقوس تكرار الكلمات .. تنظر هي إلى (فرح) فتجدها ترددها بصوت منخفض .. عيناها تبرقان من الحماس .. إنها تعيش ما تقوله –قفز هذا إلى عقل (خلود)- لم تتمالك إلا أن تبتسم إليها .. و تبتسم (فرح) إليها أيضا ..

تحسنت علامات (فرح) الدراسية .. أصبحت تعطي تركيزا للأمور الأخرى حولها .. لا تسأل عن السبب و لكن غيرت دروس الموسيقى و العزف على الپيانو حياتها رأسا على عقب .. تقرب إليها أعضاء الفرقة لما لاحظوا مهارتها غير العادية في العزف على الپيانو .. أصبحوا أصدقائها .. في درس الرياضيات نظر إليها المعلم بعد أن خط على السبورة مسألة رياضية قبل أن يعطيها الطبشور و يطلب منها أن تقوم و تكتب الاجابة .. أخذت الطبشور .. دارت العملية الحسابية في رأسها الصغير .. كتبت الإجابة و إلتفتت إلى المعلم .. بطريقة ما أصبحت تشعر أن كل شئ مرتبط بالموسيقى حتى الرياضيات .. Music is math .. عرفت هذا دون أن تعرف أن (فيثاغورس) (Pythagoras) قال يوما هذا الكلام .. طلب المعلم من الطلاب أن يصفقوا لها .. و صفق هو لها .. إبتسمت .. لقد إنسجم الإيقاع خارج أسوار الحديقة !!..

تذهب إلى حجرة الموسيقى .. ترى معلمتها .. لا لا .. ليست معلمة .. أنها تحبها كما تحب أمها .. و تشعر في عينيها و هما ينظران إليها بهذا الحب من ناحيتها أيضا .. هي ليست كباقي المعلمات في المدرسة .. أنها من عائلتها .. إنها جزء منها لكن قد حضر إلى العالم قبلها و منفصلا عنها .. عرفت و تعلمت منها النوتة الموسيقية .. قراءتها و كتابتها .. علمتها (خلود) كيف تستمع إلى الملحنين العالمين .. عاشت معها ساعات يستمعن معا إلى (بيتهوفن) حكت لها كيف يطلق عليها أخاها هذا الأسم .. ضحكتا معا .. عزفتا معا رائعة (إسحق ألبينيز) (Isaac Albéniz) متتالية (أيبيرا) (Iberia) .. إنبهرت بسماع قصة تأليف هذه الألحان .. شاركت مع الفرقة في المسابقة و أحرزوا المركز الثاني في سابقة غريبة .. إنتهى العام الدراسي و لم تنقطع علاقتها ب(خلود) إستمرت تتعلم منها في فترة الصيف بموافقة المديرة التي شعرت بالامتنان ل(خلود) لإكتشاف موهبة و قدرات الفتاة .. كانت (فرح) تتقدم بشكل يفوق التصور .. لم يتصور احد ان تلك الفتاة التي كانوا يعتبرونها (متخلفة) تخبئ بداخلها كل هذه القدرات .. لم تشعر (خلود) بالفخر بهذا .. بل شعرت بالفخر لأن (فرح) تلميذتها .. السنة الخامسة الابتدائية كانت (فرح) موضع حديث المدرسة .. عبقرية الپيانو .. الطالبة المتفوقة !! .. إبنة أبيها .. بل أصبحت مع (خلود) ثنائي فلا يكاد يذكر أسم أحداهما إلا و ذكرت الأخرى معها .. فاز فريق المدرسة الموسيقي بالجائزة الأولى و لفتت (فرح) الأنظار إليها .. عزفت المقطوعة التي حاولت فيها تقليد (خلود) أول يوم (كونشرتو أرنخويز) بمنتهى السلاسة و السهولة .. الطفلة المعجزة .. كما وصفها مراسل صحفي من جريدة محلية طلبوا منه تغطية مسابقة الموسيقى بين المدارس .. ذهب متوقعا سماع سخفات أطفال و عزف ركيك .. فوجئ ب(فرح) و عزفها منفردة و في وسط الفرقة .. قام من مقعده يصقف بيديه بعدما إنتهت من عزف إحدى المقطوعات .. تعلمت من (خلود) الفرق بين السوناتا (sonata) و السيمفونية (Symphony) .. عرفت الكونشرتو و درجات الصوت و الرنين و الإيقاع و طبقات الصوت .. لمدة أربع سنوات علمتها (خلود) كل ما تعلمته في معهد الموسيقى .. المركز الأول في جميع المسابقات الموسيقية .. أنهت (فرح) المرحلة الإبتدائية و أصبحت في الإعدادية .. طالبة متفوقة و عازفة پيانو .. في الإعدادية بدأت مرحلة جديدة في قصة (فرح) .. أخبرت (خلود) عن لعبتها الأولى .. أشركتها سرها .. فتحت لها أبواب قلعتها و حديقتها السرية .. بجهد شرحت لها كيف كانت تحول الأصوات إلى إيقاعات في رأسها و تدندنها .. (Perfect Pitch) هكذا عرَّفَت (خلود) لعبة (فرح) التي كانت السبب في إنعزالها من قبل .. قبل أن تساعد (فرح) في دمج لعبتها الأولي بالثانية .. أصبحت تنغم الجمل و الكلمات بالپيانو بدلا من ترنيمات فمها .. استغرق الأمر شهرين قبل أن تنجح في فعله .. أصبح تنغيم الكلمات في عقلها و عزفها على الپيانو مرادفا للعبتها الأولى إلا أنها لم تنعزل فيه كما حدث في اللعبة الأولى .. قدمت 3 عروض مع (خلود) على مسرح المدرسة يقدمان فيه موهبة (فرح) الجديدة .. تخطى التصفيق حاجز الإنبهار كما تخطى ما قدمته حاجز إستيعاب الجمهور .. بعد لقائهم الأول بأربع سنوات تركت (خلود) المدرسة و إلتحقت بمعهد موسيقي إفتتح حديثا بنفس الدولة كمعلمة و ممارسة .. أربع سنوات توطدت فيهم علاقة (فرح) ب(خلود) إلى حد فاق علاقتها بأمها و أختها .. و فاق علاقة (خلود) بأصدقائها و أقاربها .. شهدت (خلود) تحرك (فرح) من خانة طفلة إلى خانة فتاة .. عرفت (خلود) ذلك قبل والدة (فرح) .. أمها كانت ضيف الشرف في افتتاح الستار عن تلك المرحلة في حياتها .. البطولة الحقيقية كانت ل(خلود) .. هي من أدركت الأمر حينما لم تفهمه أو تستوعبه (فرح) نفسها .. هي من هدأت روعها عندما فزعت مما يحدث لها للمرة الأولى .. هي من علمتها معنى ما حدث و كيف تتعايش مع تلك المرحلة الجديدة .. تنفست أمها الصعداء حين انتهى دورها الشرفي في ذلك العرض الخاص الصغير و تولي غيرها مسئولية إتمام العمل ..

لم يختلف الأمر بالنسبة ل(فرح) بعد تغير لقبها البيولوچي .. لم يكن الأمر بالنسبة لها سوى إستبدالها لجسدها القديم الطفولي بجسد أخر أكثر نضجاً .. عقلها و روحها إستمرا في إدراك ما حولها بنفس الطريقة .. الأنغام و الپيانو كانا لعبتيها المفضلين في طفولتها و إستمرا كمحور إهتمامها الوحيد بعد بلوغها ..

بعد أن تركت المدرسة لم تنقطع علاقتها ب(فرح) ألحقتها معها بالمعهد كطالبة و لم يتردد مسئولي المعهد عن قبلوها فورا .. أليست الطفلة المعجزة .. فاقت التلميذة معلمتها .. عرفت (خلود) تلك الحقيقة و لكنها أبدا لم تشعر بالغيرة أو الحسد .. بل أحست بالفخر .. عزف فريق المعهد على مسرح الدولة الوطني أمام حاكم الدولة .. عزفت معهم (فرح) .. صفقت (خلود) و دموعها تنزل فخرا بتلميذتها النجيبة .. صفق الحضور جميعا بما فيهم حاكم الدولة منبهرين بعزف تلك الفاتنة الصغيرة .. كانتا يقضيان كل يوم معا في المعهد سواء كان مساءا بعد ساعات المدرسة الصباحية في فترة الدراسة أو طوال اليوم في أجازة الصيف .. لا يقطع تلك الأيام إلا سفر (خلود) لمصر لزيارة أهلها .. بعد مرور عامين من إلتحاق (خلود) بالمعهد سمعت (فرح) نميمة بعض قريناتها عن تقرب أحد العازفين و المعلمين بالمعهد من (خلود) .. وسيم الملامح .. نحيل .. يرتدي عوينات بلا إطار .. (محمود) على إسم والد (خلود) مصري فلسطيني .. لم تفهم (فرح) سر إهتمامه منذ البداية و إن شعرت هي بميل (خلود) إليه .. سألتها ببراءة إن كانت معجبة به فضحكت (خلود) في خجل و قالت كلاما عن المراهقات الجريئات و عن الفتايات الصغيرات اللاتي يكبرن و يتحدثن عن الحب و الميل للرجال !! .. لم يكن رد (خلود) موفقا إلى حد كبير .. فعلى الرغم من أن (فرح) و هي أمامها في الرابعة عشرة من عمرها .. فاتنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. إلا أن مرحلة المراهقة بالنسبة ل(فرح) كانت مختلفة عن قريناتها .. مشاعر الفتيات الرومانسية .. نسمات الصيف و حب الأزهار و شروق الشمس و الأغاني الرومانسية .. البحث عن فارس الأحلام ليصبح موضع مشاعرهن .. كانت (فرح) تشعر بإكتفاء مشاعرها بالموسيقى .. فاقت تفاصيل عالمها الموسيقي كل أحلام المراهقة و مشاعرها .. و في حين غرقت الفتيات في بحر من المشاعر المتضاربة و الرومانسية و الأحلام غاصت هي في الپيانو و الألحان و الموسيقى .. و في النهاية كانت دبلته الذهبية تحيط بأصبع (خلود) و دبلتها الفضية تحيط بأصبع (محمود) في حفل صغير في بيت عائلة (خلود) في مصر حضرته (فرح) بعد توسل أسبوعا من قبل (خلود) و (فرح) لأمها بالسماح لها بالذهاب إلى مصر لأول مرة في حياتها .. أقامت في تلك الفترة مع (خلود) في بيت أهلها و قدمتها (خلود) لهم كأختها الصغيرة .. و في مصر عرضت (خلود) على (فرح) ما تبقى من إرث عائلة (الخال) و عود والدها المصنوع بمتاجر العائلة .. جعلتها تستمع إلى موسيقي الجيل الذهبي في مصر و حضرا معا حفلة ل(عمر خيرت) في الأوبرا ..

عند عودتهما إلى الدولة العربية فوجئتا بتقدم المعهد إلى مسابقة (سيدني) الدولية لعازفي الپيانو ب(أستراليا) مع إختيار (خلود) لتمثيل المعهد .. كان المفاجأة سارة بالنسبة ل(خلود) و شعرت أخيرا أن القدر يكافأها على صبرها طوال سنوات عمرها ال29 .. عبرت الاختبارات التمهيدية بسهولة و بموهبتها و بتشجيع تلميذتها و أختها (فرح) و (محمود) خطيبها .. تم إختيارها من ضمن إثنين و ثلاثين عازفا على مستوى العالم لتشارك في المسابقة في أستراليا .. سافرت و أحرزت المركز الخامس على الإثنين و ثلاثين منافسا .. بعد عودتها جاءها خبر زلزل كيانها و فرحتها .. موت رجلها الأول في العالم .. (محمود الخال) عازف العود .. مات أباها قبل أن تخبره بالذي حققته .. سافرت إلى مصر و غرقت في أحزانها داخل حجرتها لمدة شهر بعد وفاته تحتضن عوده و تبكي .. لم يستطيع أحد أن يخرجها من حجرتها أو حزنها .. كل محاولات خطيبها و (فرح) للاتصال بها باءت بالفشل .. لمدة شهر إفتقدت (فرح) لأول مرة أختها الكبرى .. بدأت تشعر شعور من فقد شيئا ثمينا في حياته .. لكن (رهف) كانت هناك بخفة ظلها و إحساس الأمان الذي تقدمه لها على الرغم من أنها أختها الصغيرة .. أخيرا بعد مرور شهرين كادت تيأس فيهما (فرح) من عودة (خلود) .. عاد (محمود) و (خلود) معه من مصر .. عادت إنسانة غير التي عرفتها .. لم تجرب (فرح) في حياتها أن تتعلق بإنسان إلى هذا المدى الذي يحطمها تحطيما إذا ذهب هذا الانسان من حياتها .. بدأت (خلود) تستعيد نضارتها تدريجيا .. لكن لاحظت (فرح) أن (محمود) أصبح أقرب إليها منها .. يضحكها .. تتحدث إليه بأسرارها .. أحست (فرح) أنها فقدت (خلود) حتى بعد عودتها لشخصيتها القديمة .. جعلها غياب (خلود) تتدرب و تعزف لوحدها حتى ذهبت بموهبتها إلى آفاق أخرى في العزف و تقليد الكلمات و الأصوات .. تزوجت (خلود) و حضرت (فرح) فرحها بلا حماس .. شعرت أنها تؤدي واجبا ثقيلا .. و بعد الزواج تركت (خلود) المعهد و تدريجيا إنقطعت علاقتها ب(فرح) .. لم تشعر (فرح) بالفراغ الذي سببته (خلود) بخروجها من حياتها إلا عندما لم يستطيع معلمها الأخر في المعهد أن يتعامل مع تقليد الأصوات على أساس موهبة بل تعامل على أساس أنه امر طفولي سخيف لا داعي له ..

و أخيرا تمت (فرح) السابعة عشرة و أصبحت مؤهلة لتشارك في مسابقة سيدني العالمية .. و تحت توجهات معلمها التي جثمت على موهبتها .. عبرت الاختبارات التمهيدية بصعوبة و عسر لتكون اخر الإثنين و الثلاثين المختارين عالميا للمسابقة .. و على الرغم من فرحة الجميع بتأهلها للنهائيات في أستراليا إلا أنها كانت تستشعر بالهزيمة في روحها قبل الذهاب.

حتى جاء يوم و فوجئت فيه بأختها الكبرى -سابقا- تعبر أبواب المعهد قاصدة فصول الپيانو .. جاءت إليها و احتضنتها .. طلبت أن تسامحها على خروجها من حياتها و تركها .. بكت (فرح) لمجيء (خلود) إليها .. قدمت طلبات إلى المعهد للسماح ل(خلود) بالعودة لتدريبها و السفر معها إلى أستراليا .. وافقوا على مضض متذكرين أن (خلود) الوحيدة التي ذهبت إلى المسابقة من قبل و أحرزت مركزا متقدما .. أطلقت (خلود) سراح موهبة (فرح) التي قيدها المعلم السابق و عادت (فرح) .. ذهبا معا إلى المسابقة بأستراليا تعزف كل يوم متى طُلِبَ منها و لا تنظر إلى النتيجة .. فقط تمارس لعبتها المحببة كما علمتها (خلود) .. لست ذاهبة للفوز .. بل انتي ذاهبة لتقدمي للعالم لعبتك المفضلة .. عبرت المرحلتين الأوليتين لتصبح من العشرين الأوائل .. ثم الثالثة لتصبح من الإثنى عشر المختارين .. الرابعة لتتقدم للمراكز الست الأولى وسط فرحة و إنبهار الجميع بها .. ثم المرحلة الأخيرة بالعزف مع أوركسترا سيدني السيمفوني أدخلت لعبتها في عرض قصير أحدث عاصفة من التصفيق و الإنبهار بين الحاضرين .. زلزال ضرب (سيدني) ذلك اليوم مركزه دار الأوبرا و مصدره تصفيق الحاضرين و سببه .. فتاة جميلة في السابعة عشر تحمل موهبة لم ير أحد من قبل مثيلا لها .. عادت (فرح) بالمركز الأول في سابقة غير مألوفة أن تحرز أصغر المتسابقين المركز الأول .. بعد هذا ذاع سيط (فرح) عالميا .. مسابقات دولية .. لقاءات تلفزيونية .. معجزة الموسيقى في القرن الحادي و العشرين .. أثنى عشرة عاما مرت منذ قادتها قدماها قدرا إلى حجرة الموسيقى و قابلت (خلود) حتى اصبحت عازفة عالمية يشار إليها بالبنان حتى ..


3) إنكسار ..

عادت (فرح) من ذكرياتها مرة أخرى مع لطمة (رهف) ليدها فنظرت فزعة إليها و هي تسحب يديها بحركة عفوية و قالت منفعلة:

- مش هتبطلي حركاتك البايخة دي بقى يا (رهف) ؟؟

وجدت أمها و أختها ناظرين إليها في قلق قبل أن تقول (رهف):

- بقالنا ساعة بنكلمك و انتي بصالنا و ما بترديش .. انتي كويسة ؟؟

نظرت لهم و هي مازالت مقطبة حاجبيها قبل أن تتنهد و تهز رأسها قائلة:

- ما تقلقوش .. سرحت شوية كدة ..

- يا سلام .. واضح إنك سرحتي . بس لدرجة إنك مش شايفانا ؟؟

- أسفة .. بس شوية حاجات جت على بالي

- زي أيه ؟؟

قالتها امها و على وجهها علامات قلق ..

- -بضيق- ذكريات يا ماما .. إفتكرت (خلود) .. وحشتني .. و افتكرت أيام المدرسة..

- إفتكرتي إيه بالضبط ؟؟

ردت في إنفعال لشعورها بأن أمها تحاصرها بأسئلتها:

- عادي يا ماما .. انتي عمرك ما سرحت في أي ذكريات قبل كدة ؟؟

- بس سرحان علطول و الصبح سرحانة في العصفور إياه و ...

قطعت أمها كلامها فجأة و إتسعت عيناها قليلا .. شعرت أنها قالت ما لم يجب أن يقال .. نظرت (فرح) إلى امها بدهشة ثم إلى (رهف) بحدة التي دفنت وجهها في طبقها و ابتلعت الطعام إبتلاعا ..

- إنتم بتراقبوني و بتحكوا لبعض عن تصرفاتي و لا إيه ؟؟؟؟

قالتها (فرح) بإنفعال و صدرها يرتفع و ينخفض بسرعة ناظرة لهما معا .. رفعت (رهف) وجهها إليها و قالت و وجهها يحاول أن يبدو هادئا:

- إحنا بس قلقانين عليكي يا حبيبتي .. اكيد مش قصدنا نراقبك زي ما انتي فهمتي ..

- قلقانين من إيه إن شاء الله ؟؟ اللي عدا عدا خلاص

إنسالت دموعها على وجهها رغما عنها و هي تتكلم و إزدادت سرعة إرتفاع و إنخفاض صدرها .. تنهدت (رهف) و ظهرت الدموع في عين أمها .. قامت (رهف) و وقفت خلف (فرح) قبل أن تميل عليها و تحتضنها من الخلف .. قبلت رأسها من أعلى ثم جلست على المقعد المجاور و هي تدير رأسها برفق لتنظر إليها قبل أن تقول:

- (فرح) أكيد انتي عارفة إن ماحدش بيحبك أدنا أنا و ماما .. و إحنا قلقانين إن اللي حصل يكون أثر عليكي بأي شكل ..

- ما أثرش .. ما أثرش أنا ماتجننتش لسة

- جنان إيه بس بعد الشر عليك يا حبيبتي .. إحنا بس حاسين بيك و فا..

- -مقاطعة- محدش حاسس و لا عارف إللي أنا فيه .. محدش فاهم أنا خسرت إيه و لا حد هيفهم .. أنا معنديش حاجة فاضلة .. معنديش .. حاجة .. فاضلة .. مفيش حاجة بتخليني أقوم من النوم كل يوم و أتعامل عادي كأن محصلش حاجة غير عشان ماتبصوليش بالطريقة دي

قالت عبارتها في إنفعال و هي تدفع يدي (رهف) عن وجهها في عنف و تقوم من على المقعد في حركة عنيفة .. حاولت جاهدة أن تمسك دموعها المنسابة قبل أن تقول:

- أنا ما رجعتش تاني أتوه زي الأول لو كنتم قلقانين من كدة .. أنا ما بقتش أسمع لكن عقلي زي ما هو .. و النهاردة يا ماما انتي و (رهف) لما كنت باصة على العصفور اللى بتقولوا عليه كان نفسي أقرأ منقاره زى ما أنا بقرأ شفايفكم دلوقتي .. لكن ماقدرتش .. يا ريت ماتعاملونيش على إني خسرت عقلي مع وداني زي ما خسرت (عمر) .. أنا مابسمعش آه بس لسة ما اتجننتش!.


  • 2

   نشر في 11 يونيو 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا