تشققات على وتر القصيد
لعلي كنت أتقلب على هوس حروفي المتشحة باليقين، وأنا أقبض على كرة من هواء شقت عن كتلة نسيم هارب فوق أرض الغواية، فيما كنت أبحث عن وطن أرتجيه بحجم حلم، يبعثرني ذرات تناثرت كأنما هي وهج لروح ابتلاها القدر بفجيعة أو بأسى، فصارت مرثية عمري تسبكها فضاءات ليل تمر على مشاعر شاعر يرتجي السمو في محتوى كينونته الضاربة على شقوق قصيدة، وهو يتكئ على أبجدية حروفه بركيزة قوية، شدت حبكتها على وتر القصيد.
هذا طيفي يعاود حضوره مترجلا عن شبكة شراييني، وهذا راهني يطوي نفسه على ضعف، مطارد مملوء بالخذلان من وجل الدفاع عن وجوده، فأنى للمجد الزاهر يعود مشبعا بخبرات مخصبة لعهد يجود بما يراه بحتمية ضميره على أنه سيسود، ليس للحياة ثانية أن تقوى على ممارستها بلا أمل بلا عزم يسندها قرار على أن تعود، فلأي غاية تتخذ خطوة تقدمك لدرء الموت عن النص، إذا ما غفلت إشاراته التي للمعنى المراد تؤول؟
ستقول من ذلك الذي يمر بخاطرك، وذلك الذي يُسابق نفسه مُداهما مركز أفكارك، كيف سيكون عليه المعنى حين تلقاه رابضاً في زوايا النص، مخبوءٌ أو ساكن متدار بين جملة من المعاني، يتشدق النص كاشفا شكل بوح قادر أن يبين ملامح المخبوء خلف أسطر تعج بغرائبية المشهد، أو برمزيته بالذي هو كامن فهمه بما وراء المعنى، يعبر عن نفسه بالإشتياق لتلك التواردات التي تنتاب القول حين يأتيه فيض من عصف ينتابه حس الوجود.
لا تستطيع البكائيات الرثائية المتشحة بالقول الحزين أن تخترق فضاء سديمي مُطفأ الأنوار بشكل مطلق، مُرتجية وطناً تقلبه صفعات الرياح، غير عابئة بلزومية تضافر البناء مع وضوح المعنى، عالم ضبابي لا ضوء فيه يثلج صدر العتمة، ولا عيون تبحلق عبر هذا السواد اللا متناهي بحثاً عن ابتسامة تشخص قيمة الرهان على حجم رثاء الكينونة، ولأي الأوعية عليك أن تفرغ أساك بصورة عبثية خالية من الوهن، في مقاربات تبتغي الواقع، بفتنة ذاتية المنشأ حالمة في كثير من الأحيان، تبحث عن تكريس حميميتها بين حروفها المنتشلة من أعماق المعاني.
فالجماعات الإنسانية منذ أن ابتدأت تأتلف حياتها وتتآلف مع الطبيعة المحيطة بها، اختزنت تجاربها لتصبح تاريخاً أسطوريا ملحمياً يمكن إعادة انتاجه ثقافيا، بصورة منبثقة من عمق الوعي الجمعي إلى التطور المعرفي، ليكون حاضرا بين الأيادي من وقت لآخر، وربط هذه المعرفة بالعبادات والمعتقدات التوحيدية في صورة طقوس وإيحاءات تمهد لحدث قابل للتطور.
ففي الظواهر الايقاعية لبعض القصيد تلفتنا رؤية استنباطية خارجة من قاع المعنى إلى رتابة الانسياب، تكشف حالة من الانتشاء، تأخذ في كثير من الأحيان الشاعر الملهم، بالخروج من السرعة بالايقاع، والإنطلاق وفق تدفقات لموجات صوتية عاتية الايقاع تقارب البحور ببعضها، لتغدو اللغة في حالة انهمار وجداني صاخب يعتلي منصة عالية متمردة، تثير بالمتلقي حالة من اللهاث وهو يمضي خلف المعنى، لا يريده أن يتفلت عن وعيه، ليحقق في شكل الرؤية التي يسعى الشاعر أن يأخذ متلقيه بين كثافة غابات معانيه، ما يريد أن يفرده بين أيادي المتلقي المترصد له في شتى سكناته، وفيوض شعوره بعدا زمنيا يبعده عن الواقع.
فالشاعر الفطن قادر أن يجعل من انفعالاته، ثورة منبثقة من أركان شعوره، مغلفة بالدهشة للفت انتباه متلقيه، وشده إليه بروابط حسية بالغة الأثر، ما يجعله يمثل علامة فارقة في منتجه، لكنه في بعض الأحيان يدخل إلى أعماق نفسه حيث الضجيج ثائرا غير حيادي، يتلفع جبته ليأتينا مختالاً ينقل خطاه بتؤدة تشبة حالة تروي غير معهود، فجأة ينطلق بسرعة كمن أصابه مس شعري مباغت قلب توظيفاته من حال لحال أعلى بالتدفق، يجعل متلقيه في حالة يقظة مشوبة بقوة استعداده للتلقي والاستيعاب.
تتشدق العملية الابداعية بنموذج صارخ حسه، قد يراه البعض معقدا، وقد يلحظه البعض في سلاسة انسياب ماء جدول في مجراه القديم، وقد احتفر المجرى بتؤدة وهدوء، حتى بات ينعم برخامة صوت متدفق عبر منحنيات الصورة، يجعله يتردد على السمع خريرا رتيبا مفعما بالانتعاش، ينقرُ بتؤدة على عصب الانسجام بكل وئام.
-
hiyam damraعضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية