أمسكَ الفتى يدَ أبيهِ ,الذي تسمرتْ عيناه على مشاهدِ الدماءِ و صوتَ الصراخِ و رائحةَ الدخان على شاشة التلفاز و التي كأنما ملأتْ الغرفة,و هزها بقوةٍ. و قال: كلُ يومٍ يا أبي ..كلُ يومْ ! لا شيءَ يتغير و لن يتغيرْ … همُ الأقوى .. و سيفعلون كلَ ما يشاؤن. كادتْ مقلتا الأبِ تتدحرجان من عينيهِ و أرتفع َصدرهُ يكادُ يفقدُ أنفاسَه ليس من دهشتهِ لما قالَ فتاه بلْ لأنه إكتشفَْ أنه لا يستطيع نفي ما قالْ. قطعَ صوتُ الجدةِ الجالسةِ في زاوية ِالغرفةِ بجانبِ المدفأةِ الصمتَ: هل ْتعرفُ حكايةَ الجبارِ يا ياسرْ ,سألتْ الفتي.أجابَ الأبُ و الإبنُ معاً: لا. ْأفسحت الجدةُ مكاناً على الأريكةِ الكبيرةِ و المغطاةِِ بغطاءٍ من الصوف . قفزَ الصغيُر الى جانبها و لحقهُ أباه.
في بلادٍ شاسعة ٍمترامية ِالأطراف, كثيرةِ الناس و وفيرةِ الخيراتِ ,كان تاجُْر يسمى عرفات رزقهُ اللهُ من كلِ البركاتْ . كان كثيرُ المالِ و العيالِ , إلا أنه كان مغروراً متعالْ. إستطاعَ بمالهِ شراءَ كلَ شيءٍ حتى إشترى ذمةَ الأمراءِ و إستحوذَ على السلطانِ. تحكمْ في البلادِ كيفما شاء و قد إشتري كلَ طيبٍ حسنٍ فيها و إستعملْ زبانيتِه على كلِ خيرٍ و رزقٍَ فيها. كل منْ عارضهَ أو عصى له أمراً فشلَ و خابْ, و بعدَ حينٍ خلفَ الشمسِ غابْ. أرهبَ الناسَ و نشر َبينهم الفتنْ و فرقَهم أشياعاً ومللْ ,و سخرَهم عبيداً في مُلكِهم و جوعَهم و هم يزرعون بأيديهم قمحَهم و أَرزَهم و يعصرون زيتَهم.أرهبْ العبادَ و ظنوا أن الجبارَ كما أسموه قدرَهم الذي لا مفرَ منه.
كانَ يجلسُ في مجلسهِ في قصرهِ الأبيض المنيف في بهو ٍأعمدتهُ من الذهبِ و أنيتَه من الفضةِ و حولهُ الناسَ مطأطئةَ الرؤوسِ, منكسرةَ النفوسِ, لا تستطيعْ أحدٌ النظرَ في عينيهِ مهابةً و خوفاُ, و لكنهم كانوا يناظرون سبابته التي إذا إرتفعتْ فقد إنقضتْ الأمور ُو نفذتْ الأحكامُ و تمت الحاجاتُ. فجأةْ وقفَ الجميعُ و صمتتْ الأصواتُ لقدومِ شاهين إبنْ الجبار الذي بدأَ الكلامَ بصوتِ عالٍ يفتقدُ للتهذيبِ: أبي أريدُ نعامةْ! نظرَ الجبارُ لإبنهِ قائلاً : ما النعامةُ يا فتى؟ رد شاهين قائلاً: طائرٌ لا يطيرْ, يأكُل حتى الحديدَ شكله ُغريب ٌو عجيبْ. ارتفعتْ الرؤوسُ مع سبابةِ الجبار الذي أمرَ و قال : أحضروا النعامة.
لم يمضِ من الوقتِ الكثيرِ و دعا شاهينُ صحبَه من أبناءِ الملكِ و الأمراء و امتلأتْ القاعة ُبالحضورِ. و أحضرَ الرجالُ قفصاً ضخماً فيه طائرٍ ملجمِ المنقار , مربطْ الأرجل, لفَ جناجيه الى بطنهِ بقماشٍ أسودِ اللونِ. فُتحُ القفصُ, و أُفرج َعن ساقي النعامةِ فوقفت النعامةُُ و ارتفعت أصواتُ الإعجابِ و الإنبهارِ.أمسكَ أحدُ الرجال ِبالحبلِ الغليظِ المعلقِ برقبةِ النعامة ِو شدهَ حتى إنخفضَ رأسُها و قصَ اللجام َمن على منقارِها, فأصدرتَ صوتاً غريباً أثارَ الخوفَ ,مما أسعدَ الجبارُ و ابنهٌ. فِكوا جناحيهِ ,قال شاهين: و كذلكَ فعلَ الرجالُ. طائر ٌجميلُ اللونِ غريبُ المنظرِ .نفضتْ النعامةُ جناحيها فرحةً بالحريةِ للحظةٍ.و رفعَ الجبارُ سبابتَه في غرورٍ و ارتفعتْ معها عيونُ و قلوبُ الحضورِ, و قالْ مخاطباَ إبنه: ها قدْ أُحضِرتُ لكَ النعامةَ فماذا تريدُ بعد! نفضتْ النعامةُ جناحيها مرةً ثانيةً فطارتْ بعوضةٌ من تحتِ جناحها و حطتْ بساقيها الطويلتين على سبابةِ الجبارِ فقهقهِ ضاحكاً و قالْ : و هذهِ البعوضةٌ سافرتْ من آخرِ الدنيا لتموتَ على سبابتي و ضربَها بيدهِ الأخري فقتلَها و أسرعَ واحدٌ من رجالهِ ليمسح َسبابةَ الجبارِ و يزيلَ البعوضةَ الميتةَ و نقطةَ الدمِ الصغيرة.
هو نهارٌ و مضى و رقدِ الجبارُ طريح َالفراشِ تأكله حمى الملاريا كالنارِ لا يعلمون متى يفيقُ و متى ينام. و لم يُجّدِْهِ نفعاً لا مالٍ و لا سلطانْ. غشيهَ الهذيانُ و أهلكتهُ الأوجاعُ و ذهبَ حيثُ لا عودٍ و أصبحَ في خبرٍ كان .لم يقدر ْعليه بشرٌ و ظنَ أنه ماكثٌ في الأرضِ و كلُ ما عليها بإشارةٍ من سبابتةٍ مجبرُ الحضورِ .. سهلُ الإتيان. أمسكَ ياسرُ بيدهِ المرتجفة ِيدَ جدتهِ و قالْ: سبحانَ الله .. قدرتْ عليه بعوضة
-
راوية واديكاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.
التعليقات
إن الشعور بالعجز و فقدان الأمل يحيط بي تجاه ما يحدث في العالم , صحيح أنني أبذل قصارى جهدي فيما يخص شئوني الخاصة , لكن فيما يخص الشأن العام فإنني عاجز عن فعل شيء .
قصة جميلة , بالتوفيق و في إنتظار كتاباتك القادمة .