بقلم : أحمد أحمد غانم .
محام من مصر , بالاستئناف العالي و مجلس الدولة .
يُمثل الانتشار الواسع لفيروس كورونا أخطر أزمة وبائية فى الألفية الثالثة , منذ بدايات اكتشافه فى مدينة ووهان الصينية أواخر ديسمبر 2019 حتى أواخر فبراير 2020 , أمتد الفيروس من الصين إلى حوالى 48 دولة أخرى , تقع فى آسيا و أوروبا و الشرق الأوسط , مما تسبب فى أكبر حالة استنفار طبى فى التاريخ على مستوى الدولة . فقد طبقت الدول الأخرى بما فيها مصر التى امتدت إليها عدوى فيروس "كورونا" المستجد ( كوفيد -19) ، إجراءات متشابهة ، من غلق الحدود ، و توقف حركة الطيران ، و إلغاء التجمعات و الفعاليات العامة ، و غلق المدارس و الجامعات ، و حتى الشعائر الدينية ، و توقفت حركة الاقتصاد إلا فيما هو ضرورى .
بات من المؤكد أن جوانب عدة من حياة البشر ستتغير و لن تعود كما كانت سابقاً , فقد أدت تداعيات وباء فيروس كورونا إلي إزدهار قطاع التكنولوجيا بنسب كبيرة عما قبل الأزمة , فقد زاد اعتماد البشرية علي التكنولوجيا , في إنجاز أعمالهم عن بعد , بسبب الحجر الصحي , فقد أوصت عدة مجموعات كبيرة من أمثال "أمازون" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، موظفيها بالعمل من المنزل , وفي قطاع التعليم اعتمدت المحاضرات و الدروس وعقد الاختبارات علي الوسيط الإلكترونى , وإزدهرت تطبيقات التكنولوجية المالية بنسبة 72% في أوربا , كوسيلة للتكيف مع الأزمة الحالية .
ألقت هذه التداعيات الناجمة عن أزمة فيروس كورونا بظلالها على عمل مرفق القضاء , فقد أدت إلى تعليق عمل الجلسات ، و تعريض حقوق المتقاضين للخطر ، وعدم قدرة مكاتب المحاماة على القيام بأعمالها , و حولت ما يقرب من (000,160) مائة و ستون ألف محام إلى عاطلين عن العمل ، و عدم قدرتهم على إعالة أسرهم , وأصبحوا عبء علي الاقتصاد القومي . حيث أظهرت الأزمة الحالية عجز آلية التقاضي التقليدية , بوضعها الحالي , عن التكيف مع أزمة الوباء , و علي تحقيق العدالة الناجزة . وبالتالي يثور التساؤل التالي : كيف يمكن للمحاكم أن تستمر في تأدية دورها , في ظل جائحة كورونا الحالية , والحفاظ علي حياة الفاعلين في القضاء ( المحامين - المتقاضين - القضاة - الموظفين ) , في ذات الوقت ؟
العدالة الرقمية بديلاً عن العدالة التقليدية :-
يقصد بالعدالة الإلكترونية بشكل خاص هو استخدام تكنولوجيا المعلومات و الإتصال فى الوصول لمرفق العدالة و تسهيل التواصل بين مختلف الفاعلين فى ميدان القانون و القضاء ، مع إعفاء أطراف التقاضى من الحضور أو التواجد الشخصى بالمحكمة ، لرفع الدعاوى و تقديم المستندات ، حيث يتم إيداع الدعاوى و المستندات و دفع الرسوم عبر الوسيط الإلكترونى . و من أجل الانتقال إلي العمل بهذه الآلية , يتم اعتماد التوقيع الإلكتروني بديلاً عن التوقيع بخط اليد أو ببصمة اليد علي الأوراق , والتوقيع الإلكتروني هو عبارة عن تطبيق إلكتروني ذا رموز و إشارات لها طابع متفرد تسمح بتحديد شخص الموقع عليه .
التقاضى الإلكترونى يتشابة مع التقاضى التقليدى فى موضوع الدعوى و طرفى الدعوى , فكلاهما يهدف إلى تمكين الشخص من رفع دعواه أمام المحكمة المختصة قضائياً لتصدر حكماً بشأنها , إلا أنه يتم عبر الوسيط الإلكترونى . وهذا يتطلب إنشاء موقع إليكترونى يسمح للمتقاضين ومكاتب المحاماة بالدخول عليه , لرفع الدعاوى وإيداع المستندات وتحديد الجلسات , أو للحصول على معلومات عن الدعوي وما تم فيها من إجراءات. ويقوم موظفون " كتبة الموقع الإلكتروني " باستلام ملف الدعوي و تسجيلها واستيفاء الرسوم , وتحضير الجلسات , و الإتصال بأطراف الدعوي من خلال تطبيق إلكتروني للجلسات .
بالتالى يتميز نظام التقاضى الإلكترونى بأنه يعتمد على شبكة الاتصال المعلوماتية الدولية ( الانترنت ) ، و حلول الوثائق الالكترونية محل الوثائق الورقية ، و إيداع المستندات و العرائض عبر وسيط إلكتروني ، و يحل الدفع الإلكترونى محل الدفع النقدى العادى . و في ظل نظام العدالة الرقمية , سيظهر المحامى الرقمي الذي لديه حاسب آلى متصل بشبكة الانترنت عبر حساب إلكتروني خاص بكل مكتب محاماة برقم سرى , يتيح له الدخول علي الموقع الإلكتروني طوال أربعة و عشرين ساعة يومياً لمدة سبعة أيام فى الإسبوع . ومؤخراً عُقدت الجلسات بتقنية الفيديو –كونفرانس , بسبب تحدي أزمة فيروس كورونا .
متطلبات تشريعية و تقنية :-
يتطلب الانتقال إلى منظومة التقاضى الإلكترونى ، بنية تشريعية ، وكذا بنية تقنية تلائم طبيعة التقاضى الإلكترونى يُسمح من خلالها بوجود المحكمة الإلكترونية . ففي مجال التشريعات , يجب معالجة بعض المواد في قانون المرافعات ، كالمواد المتعلقة بكيفية الإعلان , فبدلاً من قيام الموظف المختص بالانتقال إلى محل إقامة الخصوم ، و بالوسائل الورقية المعتادة , سيكون الإعلان عن طريق الرسائل النصية علي الهاتف المحمول . وكذا تعديل المواد المتعلقة بعلنية الجلسات و حضور و غياب الخصوم . وقد قام المشرع المصري باعتماد آلية التوقيع الإلكتروني , وذلك في القانون رقم ( 15 ) لسنة 2004 بشأن التوقيع الإلكتروني , وأعطاه ذات الحجية المقررة للتوقيعات المعمول بها في أحكام قانون الإثبات في المواد المدنية و التجارية . كما أن الفقه لم يدخر جهداً , في تعريف التوقيع الإلكتروني وتمييز خصائصه , وتأصيله من الناحية القانونية , لإعطائة الثقة اللازمة بين المتعاملين به , خاصة في مجال التجارة الإلكترونية .
وقد اتخذت الدولة المصرية خطوات فعالة , نحو الانتقال إلي الحوكمة الإلكترونية , أي استخدام التكنولوجيا ووسائل الاتصال في دعم الجمهور . فهناك ثمانين خدمة إلكترونية تقدم للمواطنين , منها الشكاوي و الاستفسارات و الدفع الإلكتروني , والحصول علي قيد الزواج و الطلاق و الميلاد و الوفاة و القيد العائلي و الرقم القومي و صحيفة الحالة الجنائية و رخصة التسيير بالنسبة للمرور . كما عمدت الدولة إلي إنشاء هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات ITIDA , لدعم البحوث والدراسات في مجال تكنولوجيا المعلومات و الإتصال .
بالإضافة إلي زيادة ملحوظة في عدد المشتركين في خدمة الإتصالات و الإنترنت , حيث يبلغ عدد المشتركين في خدمة الهاتف المحمول ( 95,18 ) مليون مشترك , وبلغ من يستخدمون الإنترنت عن طريق الهاتف الثابت حوالي ( 8 ) ملايين مشترك , ومن يستخدمون الإنترنت عن طريق المحمول ( 43,3 ) مليون مستخدم .
إن التقاضي الرقمي ليس إفتراضياً , بل هو مُطبق بنجاح في العديد من دول العالم , بل و معمول به في دول عربية مجاورة لنا , كالإمارات العربية المتحدة منذ عشر سنوات , و المملكة العربية السعودية ، ومطبق فى كندا و الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا . و يتطلع المشتغلون بالحقل القانوني فى مصر إلى الانتقال إلى العمل بآلية التقاضي الإلكتروني , لما تحققه من مزايا عديدة , فهي تقلص أمد الخصومات القضائية , و التقليل من فرص الفساد , و تزيد من الاستثمارات الأجنبية ، وتحقق مبدأ تقريب جهات التقاضي , خصوصاً للمواطنين الذي يقطنون في مناطق نائية , وتحافظ علي بنية المحاكم من الاستهلاك , والحد من الإزدحام بالمحاكم .
-
أحمد أحمد غانممحب للقراءة و الرياضة و الشطرنج ..