الذي يعيش حياته مع الله، يعرف أن الحب لا يأتي إلا منه. و أي حب أعظم من أن يحبك من خلق الحب و أحياه في باطن النفس و أغلق عليه منافذ القلب حتى صار لا ينبض إلا لخاطره. و المحب يعرف من جنس محبوبه. فالذي تغلب عليه في الحب شهوته، قلبه صدئ بحب الشهوات. و الذي تغلب عليه في الحب مودته قلبه كالماء صاف. و الذي تغلب عليه في الحب نفسه، قلبه قد عل. و الذي يحب ما لم يخلق القلب لعبادته، يصبح عبده، حتى إذا صار القلب عبدا لما دون الله صعب عليه أن يعود الى طريق الود و الصفاء مع نفسه و الخلق، و ضاقت عليه أوردة القلب كلما ذكر الخالق. و الذي يعيش حياته مع الله، بقلبه و جوارحه، يعيش بين الناس كمن لا يعيش بينهم. و إن اختلط بهم في طريقة العيش وواكبهم في ما تدعو إليه دنياه، و أخذ يصعد فيها الدرجات، وتمكن فيها أشد التمكن و فتحت له خزائن السماوات و الأرض لم تتمكن منه، ولم تصل إلى قلبه، بل خاف على نفسه و حاسبها لئلا يكون العطاء فتنة، و الوصول من الحرمان، و الرخاء ابتلاء. و الذي يعيش حياته مع الله، يخاف من النعم أكثر من النقم، فإذا كانت النقمة تطهر النفس و تعيدها الى عجزها و افتقارها لما دون الله، فإن النعمة تجعل النفس تجحد و تتكبر حتى يخيل إليها أنها من تقدر المقادير، و تجلب المنفعة، و تمنع الضر، و المعلوم أنه لا منفعة و لا مضرة إلا بالله، و أن العبد لا يأخذ ما لم يكتب له، و لا يضيع عليه رزق مكتوب. إنما إذا أراد العبد من الدنيا ما لم يملك، دعا الله و تيقن بالإجابة و أخذ بالأسباب ثم يفعل الله ما يريد. و الذي يعيش حياته مع الله يخشى أن يطلب من الله غير ما يرضي الله، فكم من دعوة استجيبت حملت من الشر ما لم يحمله القدر، و كم من عبد أقسم على الله في موضع من الدنيا ففتح الله عليه بما عذبه، ذلك أنه سأل المسألة و لم يسأل الله خيرها.
و الذي يصدق مع الله يسأل الله الخير و إن كان على غير ما يرضاه و لا يطلب رضا نفسه، ظنه في ذلك بربه أنه في كل الأحوال يرضيه.
يبتلي الله بالموجود كما المفقود. يبتليك بأن يعطيك، أو يبتليك بأن يحرمك. يبتلي الله بالذنب و يبتلي الله بالعصمة، يبتليك بالتقوى حتى ترتفع النفس فترى في الضلال ما دون المتقين، و في التشتت المقصرين، و في الرذيلة المتهاونين. و يبتليك بالذنب حتى تسقط النفس من مرتبة الغلو في الدين الى مرتبة الفهم، و من منزلة العلو في النظرة الى التساوي فيها، أو أشد من ذلك إلى تصغير النفس و احتقارها أمام من قد تتهيأ له أقل منها. فلا تحكم على الظواهر، و لا تحكم على البواطن، و لا تنزه نفسك. بل ترى أن الجميع في طريق واحد يثبت فيه الواحد و يستقيم أو يزل على قدر تعلقه بالله أو ما دونه و تعلم أن الحكم في ذلك كله لله وحده.
يبتلي الله بالرخاء و يبتلي بالشدة. فكم من منعوم نعمته تشقيه، و كم من محروم هذبه الحرمان حتى صارت نفسه راضية لما نزل به من المنع. و إذا رضي العبد فقد أوتي من الدنيا، ما لم يؤت الذي بسطت له فما حمد.
يبتلي الله بالفراغ و الوقت، و يبتلي بالصحة و المرض. فمن اغتنم وقته في ما يرضي الله فاز، و من اغتنم صحة جسده في طاعة قد فاز، و من أضاعهما في غير مرضاته شقي و الوقت الذي يهدر لا يعود.
و كل نعمة إنما هي حجة على العبد قبل أن تكون تفضيلا له.
نهيلة أفرج
-
Nouhaila Afrejأستاذة و كاتبة مغربية
التعليقات
بارك الله فيك أستاذتي وبارك الله فيك وزادك تقى