ربما لن نجد فترة تاريخية افضل من تلك التي تقع بين منتصفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للبدء في البحث عن الأسباب الحقيقية لبداية تشكل الوعي السياسي الاسلامي المعاصر. فبغض النظر عن الاحداث الجسام التي مرت بها المدن والولايات التابعة للدولة العثمانية قبل ذلك التاريخ فإنها بقيت بشكل أو بآخر محصورة في اطار النزاع الاسلامي-الاسلامي بشكل خاص والنزاع بين شعوب الشرق الأوسط وقومياته ومكوناته الدينية والعرقية بشكل عام، ولكن اذا ما حاولنا التدقيق في الفترة بين نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر فسنجد أن القوى الغربية ذات الاطماع الاستعمارية والانتفاعية قد بدأت بالفعل في زيادة تأثيرها السياسي والاقتصادي والعسكري في عموم الشرق الاوسط ومنطقة الخليج العربي، بدءاً بالبرتغاليين الذين عُرف عنهم طموحهم التوسعي بين ضفتي الخليج انطلاقاً من اهداف اقتصادية واستراتيجية قد تفيدهم فيما بعد في صراعهم مع الاسبان والانكليز للسيطرة على طرق التجارة في الشرق ومراكزها المهمة من موانيءٍ ومدن. ولأن العالم الاسلامي ومحيط الدولة العثمانية كانا قد انعزلا عن التأثيرات الغربية بشكل أو بآخر فإن الصدمة التي تلقاها المسلمون جراء تفوق الترسانتين العسكرية والصناعية الغربيتين فاقت كل حدود التوقعات لسببين: أولهما هو ان عامة المسلمين كانوا لا يزالون يعيشون تحت تأثير امجاد العصور الذهبية للاسلام وما تبعها من تفوق علمي وحضاري الخ. اما السبب الثاني فهو وقوعهم لأول مرة منذ زمن طويل تحت سيطرة قوة خارجية غير مسلمة تتناقض معهم في معتقدهم الروحي وتقاليدهم وأساليب عيشهم بل وتنظر الى الاسلام والمسلمين على انهم بشر من درجة ثانية لا يرجى منهم سوى المنفعة الاقتصادية عبر التعامل معهم كمصدر للمواد الأولية وسوق للبضائع. كل هذا كان سيؤدي بالتأكيد الى ردة فعل لا يزال العالم الاسلامي يعيش تحت تأثيراتها الى يومنا هذا. إذ تولدت بسبب ذلك محاولات التسييس الديني وتمحور جوهرها حول نبذ كل الاضافات اللاحقة التي الحقت بالإسلام خلال اكثر من الف عام على ظهوره الأول والعودة الى جوهر الدين الأساسي الموجود في القرآن. ولعل أبرز الروّاد الذين أثروا في هذه الحركة كان محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣-١٧٩١) مؤسس الحركة الوهابية وأحد اللاعبين الأساسيين في قيام الدولة السعودية الأولى. ومن يظن أن فكر بن عبد الوهاب كان نتاجاً لمجتمعٍ بدوي منغلق على نفسه في قلب الصحراء ربما لن يكون على صواب تماماً، لأن محمد بن عبد الوهاب الشاب كان قد سافر وارتحل الى مدن مثل البصرة وبغداد ودمشق وهي الحواضر الأساسية القريبة آنذاك، بل وتتلمذ على يد نخبة من علماء هذه الحواضر واستطاع من خلالهم الإطلاع على اغلب مذاهب التصوف والفلسفة الاستشراقية. ومن هذا نستنتج بأن بدايات حركات الاصلاح الاسلامية لم تكن متطرفة بالاساس ولكنها انطلقت من فكرة إعادة الاسلام الى امجاده ودوره المعروف في تغذية الحضارة الانسانية.

ومما يمكننا ملاحظته أيضاً عن دور تلك الحركات في القرن الثامن عشر أنها بقيت منحصرة في اطار التجديد والاصلاح الداخلي وعلى الصعيد السياسي تبقى الدولة السعودية الأولى هي المثال الأبرز على ذلك وخصوصاً في تلك الفترة. أما عن الصدمة الأكبر والاقوى التي أصابت العالم الاسلامي أواخر القرن الثامن عشر فيبرز أسم "نابليون بونابرت" كلاعب أساسي فيها. ففي منتصف العام ١٧٩٨ اقلعت السفن من الموانئ الفرنسية محملة بأكثر من ٣٦ ألف جندي في حملة كان هدفها الأساس احتلال مصر تحت راية الصداقة والتحرر والمساواة وتخليص الشعب المصري من وطأة حكم المماليك. استمرت الحملة مدة ثلاث سنوات نبهت الغرب خلالها الى أهمية الشرق الاستراتيجية برغم أنها انتهت بهزيمة الفرنسيين وسيطرة كل من القوات العثمانية والانكليزية على مصر، ولأن موضوع الحملة طويل وشائك فأننا سنتركه خارج هذا السياق ونركز على التأثيرات التي انشأتها الحملة داخل المجتمع الاسلامي، وهي ليست كلها سلبية بالتأكيد بدءاً من تعرّف عامة الشعب المصري على حضارة الغرب وأساليبهم الحديثة في الحياة وتعاملهم مع المخترعات الحديثة: المطبعة والأسلحة الحديثة ووسائل الإنتاج الصناعي وغيرها مروراً بالتأثيرات الروحية إذ أن المجتمع الاسلامي وقع تحت وطأة الصدمة الكبرى الناتجة عن الشعور بالضعف والتخلف وقد أدى ذلك من جديد الى ظهور تيارات وأجيال جديدة من دعاة الاصلاح ونبذ الافكار الشاذة عن كل ماهو اسلامي ثم تحولت حركات الاصلاح تلك الى حركات نهضة شاملة وظهرت شخصيات مؤثرة كجمال الدين الافغاني (١٨٣٨-١٨٩٧) وتلميذه محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥) ومن بعدهما الكواكبي ورشيد رضا واسماء أخرى لا يسع المجال ذكرها. ومن الملاحظ أن تطور الوعي الاسلامي في تلك الفترة بدأ بأتخاذ نزعة قومية عربية ممزوجة بتوجه سياسي تتوج لاحقاً بظهور جماعة الاخوان المسلمين على يد حسن البنا (١٩٠٦- ١٩٤٩) حيث بدأت حركة الاصلاح الاسلامية تأخذ بعداً تنظيمياً جديداً لم تعرفه من قبل، بعد يتجاوز العمل الحزبي والدعوي التقليدي بل ويتخطى حدود كل ما كان متعارفاً عليه في ذلك الوقت الى نوع جديد من التنظيمات السرية التي تحولت في ما بعد للصيغة الثورية المسلحة فكانت هذه أول بذرات التطرف في المجتمع الاسلامي الجديد الذي قسّم الى عدة دويلات على يد المستعمر الاجنبي. ولعل تبعات الحرب العالمية الأولى هي السبب الابرز في ذلك التحول الراديكالي. فالعرب الذين حاربوا يداً بيد مع الانكليز ضد الدولة العثمانية شعروا بنوع من الخيبة والخيانة بعد أن تم تقسيم دولتهم الموعودة على يد حلفاء الأمس وهم انفسهم أي الإنكليز الذين سمحوا بزرع الكيان الصهيوني في قلب الدولة الموعودة. ومما زاد الطين بلة هو مساهمة الانكليز بل واصرارهم على انهاء دولة الخلافة وإبعاد الخليفة العثماني الاخير عبد المجيد الثاني (١٨٦٨- ١٩٤٤) عن مركز الخلافة الاسلامية اسطنبول، ليجد العالم الاسلامي نفسه تحت تأثير ظرف جديد لم يعهده من قبل الا وهو غياب القيادة الروحية والدينية العليا التي كانت برغم ضعفها ستاراً يتجمع تحت كنفه أغلب المسلمين. هذا التغير الشامل أدى الى تحول الحركات الاصلاحية الاسلامية كما سبق وذكرنا الى نوع من الحركات الراديكالية التي اتخذت من اعادة دولة الخلافة هدفاً اسمى لها. وما يمر به العراق وسوريا اليوم خير مثال على ذلك فالتاريخ هو حركة متواصلة من الأحداث وما يحدث اليوم له جذور قوية ترتبط بما حدث بالأمس، جذور ربما تكون مغيّبة على السواد الاعظم ولكنها بالتأكيد موجودة وأحداثها معروفة وسهلة الاكتشاف لمن يود البحث في هذا الجانب المهم في تكوين مجتمعنا العربي المعاصر.

محمد هادي