استيقظ كعادته مبكرا ومارس طقوس الاستيقاظ التي اعتاد عليها ، حزم أمتعته التي لم يكن يدري أنه لن يستطيع فتحها بعد اليوم، فهناك من ينتظره على أحرّ من الجمر فوق المياه الزرقاء والأمواج المتلاطمة ليحضنه بمياهه المالحة وظلامه الدامس، فهو كالحرباء يتلون ليلتقي بفرائسه في أي مكان وتحت أي ظرف، فمرة يتحول لرصاصة أو قذيفة في ساحات الحرب، ومرة في سيارة مسرعة على خطوط الموت، وحين لا يجد عوامل خارجية يخترق العوامل الداخلية بمرض أو بغيره. فلا شيء يستطيع منعه أو طلب الانتظار منه.
بدت الرحلة اعتيادية فكل شيء يسير كما هو مخطط له، كابتن الطائرة يطلب من الركاب الاستعداد للإقلاع الأخير حيث ستقلع الطائرة إلى عالم الآخرة دون استئذان. داخل الطائرة راكب يتمايل طربا ويستمع لأغنية الوداع، راكب آخر يحتسي صوت حبيبته ويهمس لها انتظريني سوف أصل قريبا، وفي الزاوية عشيقان يستمتعان بالحاضر ويرسمان المستقبل ..طفلة تداعب دميتها وتحتضنها، ورجل آخر لا يهتم لشيء غير مراقبة حركات الناس وسكناتها.
أقلعت الطائرة تصارع الجاذبية الأرضية بمحركاتها العملاقة وهديريها الصاخب، واستوت على خط سيرها تخترق الهواء وتعارك المطبات الهوائية، وبعد أن هدأت الأصوات إلا من خطوات المضيفين وشخير النائمين بدأت تخرج من قمرة القيادة أصوات توحي بخطب ما أكدته لنا بعد ذلك صحائف وجوههم وفلتات ألسنتهم، فقالوا لنا كل شيء على ما يرام التزموا أماكنكم، ثم لم نلبث ثوان معدودة حتى بدأت الطائرة بمحاولات الإجهاض، فتعالت الأصوات والصرخات والتكبيرات، وبدأت معركة في قمرة القيادة لإقناع الطائرة بخطورة الأمر، إلا أن الطائرة قد أخذت موقفها عازمة على الرحيل إلى أعماق المحيط فقد تعبت من حمل الناس وهمومهم وتريد الاسترخاء بعيدا عن ضجيج الحياة.
في هذه اللحظات اختلط الصراخ بالمشاعر، وانحنت الطائرة للأمر الواقع، وتوجهت مسرعة نحو موعدها الإلهي الذي ينتظرها، لترتطم وتتطاير معها الآمال والأحلام.