فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
فكأنما يعيش المؤمن في هذه الدنيا على تطلعٍ أُخروي يرىٰ فيه العابد غَده الذي لم يأت بعد يوما ماضيا يرجو أن يكون لله...
نشر في 21 ديسمبر 2021 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21)} [الحاقة : 19-21]
وقفت عند هذه الآيةِ {فهو في عيشةٍ راضية} وبحثت في تفاسيرٍ عديدة لتُعطيني ما وجدته في قلبي منها ولم أجده....
ولذا فأردت أن أُعطيكم من عطايا هذه الآية، الآياتِ الثلاث تصف مشهدا في الآخرة لأصحاب اليمين، من جمال أسلوب القرآن أن اللفظة الواحدة لتتنقل في فُسُحاتِ النفسِ كما لو كانت مقالا كاملا، فعندما أخبرنا أنه في {عيشةٍ راضية} أول ما طرأ في الذهن عيشةُ هذه الدنيا؛ وذلك ليس لشيءٍ إلا أنها الدارج في اعتيادنا اللغوي.....
وهذه النقلة اللحظية التي حركنا فيها القرآن إلى أجواء الدنيا ومن ثم أعادنا إلى أجواء الآخرةِ ثانية نبّهتنا إلى مقارنةٍ جميلة: إلى منْ ربط عيْشَه الحقيقي بالآخرة ومنْ قَصر عيشته على الدنيا...
ولفهم جمال هذه المقارنة أكثر يجب أن نقف عن قوله -تعالى- وهو يحكي عن أصحاب اليمين : {إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه}، أجد براعةً تعبيريةً منقطعة النظير في استخدام القرآن لفعل الظنّ {إني ظننت}، فالقرآن يُخاطبنا بلسانِ الحق، وإذا ما قطعنا القول بأن كل مؤمنٍ بالله هو على يقينٍ مطلق، فعلى أي وجهٍ يقوم الإيمان بالغيب؟! وعلى أي وجهٍ يكون الاختبار والتمحيص إذْ اليقين سهل الوصول وبيّن للجميع؟! فآلية المُحاسبة بالعقاب والثواب تقتضي بأن المؤمن والكافر كليهما قائمٌ على الظن، ولكن الأول ظنه على الحق والثاني ظنه على الباطل...
وإن من أخبار القرآن ما تؤكد هذا المعنى حينما قال الله -تعالى- : {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، {حتى} تفيد الانتهاء والوصول للغاية، فمتى ننتهي نحن من عبادة الله فيأتينا اليقين كاملا؟!!
إلاّ أن تنتهي آجالنا...
ولتمام تخيل الصورة القائمة على الظن، أنك تؤمن بالله وملائكته ورسله وما رأيت الله وما رأيت ملائكته رأي العين، وما رأيت نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وما أدراك أن كتاب الله هو كتاب الله ولم تُعاصر الرسول وترى صِدق رسالته، وتتثبت بآياته ومعجزات نبيه، وقد آمنت بكل هذا على أخبارِ السلف وعلى فطرتك وفقط، فأدق وصفٍ أنك تعتمد على ظنّك بأن هناك ربا سيحاسبنا على أفعالنا وهناك آخرة وهناك جنة وهناك نار، والوصف بالمِثل كما وضحه القرآن في قصة طالوت حينما قال الله -تعالى- : {.. ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 249]
ولذا فقد قال الله -تعالى- مُتحدثا عن الإيمان بالغيب:
{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم : 61]
وقال في غير آية:
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 49]
وقال:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد : 25]
وانظر لقوله -تعالى- :{وليعلم الله من ينصُرُه ورسلَه بالغيب}
وانظر لقوله -تعالى-:
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة : 210]
فيحينما يأتي الله أمامنا على وجه الرؤية العينية بما يليق به -سبحانه- ويأتي بملائكته فقد قُضي الأمر وانتهى وقت الاختبار، وإن كان هذا فتأكدوا أنكم في أجواء يوم القيامة، فالغاية في الدنيا هي الاختبار، والاختبار في غيب الله وملائكته عنا والإيمان به...
وفي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ضعيف، ولكن استحسنه كثير من العلماء تسليةً للنفس، رواه البيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 538) من طريق إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاشٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ التَّمِيمِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ ) ، قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ ، قَالَ: ( وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؟ ) ، قَالُوا : فَالنَّبِيُّونَ ، قَالَ : ( وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ؟ ) ، قَالُوا: فَنَحْنُ. قَالَ : ( وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ ) ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِلَيَّ إِيمَانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا )
إن القدرة اللغوية العجيبة في القرآن تستطيع أن تأخذك إلى ما تحتاجه نفسك أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك، بما يُلملِم في ذهنك الفتائل التأملية المبُعثرة إلى عُقَدٍ عقائدية شديدة الوَثاق، لا يعذوها فكرة خارجية تفوق قدرة القرآن في الاقناعِ والتثبيت، وقد قرأت من قبل قولا لعالم رياضيات – اشتهر لاحقًا- اسمه جيفري لانغ يروي قصة شكه، وانتقاله من الإلحاد إلى القرآن عبر هذا الحبل، يقول :
” وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة… بدا واضحًا أن مبدع القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي… وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت إلى حد ما أكتشف الإجابة في اليوم التالي؛ ويبدو أن هذا المبدع يقرأ أفكاري … كنت أشعر بالانقياد بحيث أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحتوِ سوى خيار واحد”
نعود لباقي الآي أعلى فعندما نبهنا القرآن الكريم لهذا الاقتران اللحظي بين عيشة الدنيا والآخرة أراد في مواربةٍ جميلة أن يقول لمن ظن أنه ملاقٍ حسابه أن الله يعرف ما كنت تريد ويحب فيك أُخرويةَ قصد عيشتك في الدنيا لأجل لقاء الله في الآخرة، فالدنيا التي ما استقامت لمؤمنٍ قط ولم تُرضيك يوما وما اطمأننت بها عمرا يُبدِلها الله لك اليوم عيشة راضيةً مرضية في جنةٍ عالية، قطوفها دانية...
أسلوب القرآن بديع في عرض هذه الرؤية يسوق العقل والفطرة إلى طلائعية التوجه وعلو التطلع؛ فهو في جنةٍ عالية، ويردُ اللبيب إلى دناوة الدنيا من جهةٍ ودنو العاقبة وثمار الثبات على هذا القصد الأخروي من جهةٍ أخرى؛ فإن قطوفها دانية....
ولذا فطالما كان الصبر على هذه الدنيا العاجلة صبرا جميلا في توكلٍ ربانيٍ؛ فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا...
وهنا وجه التميز في عقيدة المسلم المؤمن عن أي مللٍ أخرى في هذا العصر، وأنا لا أتكلم في وجه مقارنةٍ بيننا وبين مللٍ أخرى، أنا أتكلم فيما بيننا وبين أنفسنا نحن المسلمون المؤمنون، أتحدث عن دواخلنا وما نشعر به في أعماق عيشنا مع الدين، هي عقيدةٌ قلبيةٌ عقليةٌ تطرح الدنيا جانبا لأجل الله، فهذه الفلسفة التي يعكسها لنا القرآن في خواطرنا تجاه معظم آياته تبدو أقرب الأشياء للتطبيق؛ لأنها تعتمد على إيمانٍ بالقلب وقناعةٍ بالعقل، وبهاتين الحُسنيين تُقادُ طاقتنا وأعمالنا مُحبّين....
ولذا فقد ختم القرآن الكريم هذا الربط الجميل بهذه الآية الهادئة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة : 24]
فكأنما يعيش المؤمن في هذه الدنيا على تطلعٍ أُخروي يرىٰ فيه العابد غَده الذي لم يأت بعد يوما ماضيا يرجو أن يكون لله...
-
عبدالرحمـٰن علوشهايل