نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنــــينه أبدا لأول منزل
على مدى أكثر من ألف عام، كانت أبيات أبو تمام الشهيرة تتناقل عبر الأجيال فصارت على ألسنة الناس ومحفورة في وجدانهم وملهمة لمئات الكتاب والشعراء.
فالجميع هنا يتغنى بالحب والحبيب الأول الذي لا يستطيع القلب أن ينساه حتى وإن كان قاسيًا ومعذِبًا، ويستمرأون البكاء على أطلاله، نعم على هذا تربينا وعلى خطى الآباء والأجداد سرنا مغمضي العينين.
أصبحنا أسرى لفكرة اختمرت في رأس شاعرِ، فأطلق عنانها، وعلى إثرها حرمنا أنفسنا أجيال وراء أجيال من لذة الحب الناضج، ومن رفقة تؤنس وحشة الطريق وتُريح القلب وتسكن النفس في حضورها.
فنحن نأتي لهذا العالم بلا معرفة حقيقية بذواتنا، وبلا مهارات وبلا أي شيء سوى رغبتنا المشتعلة في ملاحقة الأمال والأحلام، سوى هذا الشغف الذي يدفعنا دفعًا إلى خوض التجارب الواحدة تلو الأخرى.
وحينها فقط، نبدأ في اكتشاف أنفسنا جزءًا جزءًا، من نحن وماذا نريد وإلى أين المسير وماذا نحب وماذا نكره وكيف نحمي أنفسنا وكيف نضمد جراحنا وكيف ننهض ثانية بعد كل سقوط، وسلسلة لا تنتهي من أسئلة نحصل على إجاباتها مع كل خبرة جديدة.
لكن يظل هناك جزءًا واحدًا بمثابة غرفة مغلقة وعليها أقفالها تشبه غرف «الكرار» في البيوت القديمة تظل مظلمة ولا أحد يعلم تحديدًا ما فيها حتى يأتي أحدهم فيدير مقبض الباب ويُضيء المصباح بكبسة زر.
فهكذا الحبيب الأول في رأيي، يُضيء لنا عتمة ذلك الجزء ويكشف لنا عن معانيه المجهولة ويسلط الضوء على احتياجاتنا الحقيقية، وعلى تفضيلاتنا الشخصية وحدودنا ومالذي نستطيع أن نمنحه للآخر في علاقاتنا العاطفية، وما نقبله وما نرفضه قطعًا دون نقاش... إلخ.
فالتجربة الأولى وحدها هي من تمنحك دليلاً وافيًا عن نفسك، يُمكًنك من النجاة في المرات المقبلة، فهي أنجح من ألف مقابلة مع طبيبك النفسي الذي يحاول جاهدًا بكل ما أوتي من علم ومعرفة أن يعطيك خطوط عريضة عن العلاقات وكيفية خوضها والتعافي من تجربة الانفصال إذ حدثت.
لكن ماذا عن الألم الذي يعتصر قلوبنا، ماذا عن الوعود التي قطعناها، وماذا عن الجراح والليالي المظلمة حيث لا رفقة سوى ذكريات مؤلمة ترفض الذهاب إلى حدود اللاعودة.
مؤخرًا، صرت أؤمن أن الألم ضروري للنمو، فلا نمو ولا نضج دون ألم يُهذب أرواحنا ومشاعرنا التي تكون في بداياتها كمهر جامح يسير في كل اتجاه ويتخبط على غير هدى، حتى يجعلنا الألم نسيطر عليه ونكبح جماحه ونقوده فيصير خيل سباق يمكنك الرهان عليه.
إذن كيف نحكم على أنفسنا التي نتعرف عليها يوميًا -كما نتعرف على هذا الكون الفسيح فيبهرنا في كل مرة- ألا تتذوق الحب مرة أخرى ونحبس أرواحنا في أسطورة «الحبيب الأول» ؟!
فعلاقتنا بالحبيب الأخر تكون أكثر نضجًا من نظيرتها الأولى، عندما نمنحه ونمنح أنفسنا الفرصة أن نعيش الحب بنكهة تآلف القلب مع العقل حيث رضا ربما لم نشعر به من قبل، ومودة ورحمة وسكينة ربما نختبرها للمرة الأولى معه.
في المكان والزمان المناسبين تمامًا سنقابله، ونشاركه تلك الحياة التي كنا نعتقد إنها لن تبرح أحلامنا، لكن على شرط التعافي من التجربة الأولى بحيث نكون في غاية الامتنان لها وننظر إليها بابتسامة نحن وحدنا من نعرف معناها.
على أية حال أنا أفضل قول العلوي الأصبهاني:
دع حب أول من كلفت بحبه ** ما الحب إلا للحــــــبيب الآخر
ماقد تولى لا ارتجاع لطيـبه ** هل غائب اللذات مثل الحاضر
-
سارة نورأعمل صحافية ولدي اهتمامات عدة أبرزها الموضوعات الاجتماعية والحقوقية