الجريمة الكبرى - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الجريمة الكبرى

الحزن القاتل

  نشر في 15 يناير 2019 .

لعل العنوان يلمح عن الجريمة المعروفة المتداولة المتعلقة بالمجرم والفعل المجرم وأدواتها ومن وقعت عليه والحق ليس كذلك فبعد خبرة سنين في العمل النفسي وجدت أن أكبر الجرائم التي ارتكبت ومازالت ترتكب في حق الشعوب العربية والإسلامية هي بث الحزن والكآبة في نفوس الناس على المستوى الفردي والجمعي ولا أنسى حين خرجت وأنا غلام من مصلى العيد وأنا مهموم حزين مغموم وهو يوم العيد وهي صلاة العيد بسبب ما شعرت به من ثقل المسؤولية المنوطة بي والملقاة على عاتقي بسبب ما ذكره الخطيب مأجورًا مشكورًا من فساد حالة المجتمع وضياع هويته وغياب القدوة فيه وبعد الناس عن الهدي النبوي على صاحبه أزكى الصلوات وأتم التسليمات وكأن المسلمين وأنا منهم هم المسؤولون مسؤولية مباشرة عن كل فساد وخطأ وأمراض ومشاكل في المجتمعات ليس فقط المحلية بل والعالمية وفضلًا عن أن هذا الكلام تبين خطؤه فلسنا وحدنا في العالم ولسنا المخطئين الوحيدين على فرض أننا كذلك بل يوجد سوانا ستة مليارات من البشر أو قريب من هذا الرقم لكن الأهم بماذا استفاد العالم من تحميل شريحة غلمان وشباب ورجال ونساء مسؤولية فساد البشرية؟

وأهم المهمات ماذا فعل الحزن في الأجيال التي تحملت هذه المسؤولية الوهمية؟

أفسد الحزن الحياة وكدر الحاضر وضيع المستقبل فلم ير الناس أفقًا مقبولًا من التغيير أو رغبة من صانع قرار لتحسين حالهم أو آلية تضمن لهم مشاركتهم في تعديل الأوضاع التي تحملوها قسرًا وجبرًا ولم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل.

ضيع الحزن آمالهم وأطفأ شعلة الأمنيات في قلوبهم وألزمهم بالانكسار في حياتهم فلا على المستوى الشخصي حققوا ما رغبوا من الإنجازات، ولا على المستوى العائلي والأسري عاشوا بلا مشكلات ومعدلات الطلاق ناطقة ونسب الجرائم شاهدة ولا على مستوى المجتمعات والأوطان قدموا شيئَا مذكورًا لا لفقدهم للإمكانيات أو انتفاء القدرات عندهم ولا لفشل ما لديهم من المهارات بل لضعف الثقة بالنفس وعدم الإيمان بالمقدرات وسيطرة الحزن على مشاعرهم واستحضار الماضي والعيش فيه لدرجة تعمي عن أفق المستقبل لا لاستمداد التجربة والخبرة منه

غلب الحزن على مشاعر المجتمع فأصبح ضعيف الهمة قليل الشكيمة ضعيف البأس لا يرى في نفسه الاستحقاق لعيش حياة كريمة مليئة بالتفاؤل والأمل

وأسوأ عبارة تقولها لنفسك أنا لا أستحق

بل كل مخلوق يستحق كل خير في الدنيا فالسعادة والأمن والطمأنينة والطموح والإنجاز حق مكفول لكل إنسان يسعى له ويحاول تحقيقه

من له الحق من منعي من تحقيق هدفي؟ من له السلطة ليشعرني بالرضا عن نفسي؟ من له الجرأة ليلزمني بما لم يلزمني به الله تعالى؟

هذا الشعور بالحزن المسيطر دفع الناس إلى القلق والاكتئاب والعجز والكسل والأمراض العضوية والنفس بدنية حتى أصبح غالبهم إن ضحك أو ابتسم أو شعر بالأنس قال اللهم اجعله خير وكأنه يتوقع أن قارعة ستصيبه لأنه ابتسم أو ضحك

بل غلب على حوارات الغيورين والصادقين نحسبهم عبارة البطل الكبير والنموذج القدير صلاح الدين الأيوبي كيف أضحك والقدس أسير؟ كيف تضحكون؟ كيف تأنسون؟ ونسي غالب هؤلاء أن التبسم في وجه الناس صدقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغلب عليه التبسم على كل حال وأن كلمة صلاح الدين لا تعني أنه كان متجهمًا عابسًا ينفر كل من حوله بزعم حرصه على القدس أو مقدسات الإسلام

ضحك السخرية والاستهزاء والعمالة وممالأة العدو وخيانة الأمانة هو الضحك الممنوع الذي يبدي للعدو بشاشته ويصافحه ويطبع معه بل ويشرب ويأكل معه حتى إذا لقي أبناء بلده وعيال ديرته تجهم وعبس وأزبد وأرعد وقال كيف أضحك والقدس أسير؟

هذا عين ما قصده صلاح الدين رحمه الله من السؤال الاستنكاري عن الضحك

أما أكل رحمه الله وشرب ونام متقويًا على الجهاد والقتال؟

إن أقرب وصف يناسب حالة العرب والمسلمين في العقود الأخير هو الأمة الحزينة

الحزن كلمة مؤلمة ومزعجة لكنها حقيقة كلنا يشعر به ويفهمه ويدرك أبعاده لكن القليل منا بل والقليل جدًا من يحسن التعامل معه

إن الخطاب اللوام والنصائح المقرعة والإلزام في مساحات التخيير والإيجاب في منطقة المباح أفسد ولم يصلح وهدم ولم يبن

والعجيب والغريب والمدهش والملفت للإنتباه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى في أصل الشرع أن يعيش الإنسان حالة الحزن المسيطر أو اللوم المقرع أو الشعور بالذنب القاتل فقد دعا الله بقوله اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن

طلب عليه الصلاة والسلام رفع الحزن والألم والهم والغم والفقر والضعف والذلة عن نفسه وأمته فما بال من يزعم التأسي به يريد المجتمع حزينًا مهمومًا؟

إن المتخصصين في الإرشاد النفسي يحذرون تحذيرًا شديدًا من الحزن كحالة حياة أو صفة مستمرة

إنه لا يفسد النفس فقط أو يشوش على طريقة التفكير فحسب بل يفسد البدن ويوهنه ويضعفه ويخرب الحاضر ويمنع من النظر إلى المستقبل

إن هذه المجتمعات التي نشأنا فيها أحوج ما تكون إلى خطاب الأمل والتفاؤل والوعود الحقيقية بالخير وتغير الحال وهنا يأتي المنهج المبارك والتشريع النقي الصافي يعلنها صريحة بلا لبس بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا

ويأتي التذكير بالكلام القدير وما جعل عليكم في الدين من حرج وبقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

وإن تخصص أهل الشريعة وأنعم به من تخصص في الكلام عن الحلال والحرام والصواب والخطأ وتفسير هذه الآيات وغيرها فينبغي على الجميع أن يتكلموا في المراد العام من الدين وهو الطمأنينة والأمل والتفاؤل ودعوة الناس للخير والراحة النفسية

فلا يمكن للتدين أن يكون بابًا للاكتئاب والحزن والأمراض النفسية بل هو باب السعادة الكبير وواحة الطمانينة المثمرة ألا بذكر الله تطمئن القلوب



  • د.محمد مصطفى
    دكتوراة في الإرشاد النفسي ، معالج نفسي وباحث ومؤلف ، زوج وأب.
   نشر في 15 يناير 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا