عن النحيل الأسمر و أولئك الذين يلعبون الكرة بقلوبهم ( 1 ) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عن النحيل الأسمر و أولئك الذين يلعبون الكرة بقلوبهم ( 1 )

  نشر في 24 يناير 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

حين لامست أنامل قدميه السمراوتين تراب الجنوب للمرة الأولى , لم يكن يتخيل أنها قد تكون البداية لشئٍ ما .. شئُ مازالت ملامحه لم تتحدد بعد , لم يكن يعلم ان هناك فى مكان ما ليس من عالمنا و لسنا من عالمه قد أُطلقت صافرةً أو ربما قُرع دفاً .. لا .. ربما كانت أهزوجة أو صيحةً نسجتها أصوات الآلاف .. احتفالاً بميلاده .. هذا المكان الذى هو ليس من عالمنا و لسنا من عالمه قد يكون ملتقاً , جنة ً ؟ لتلك الأرواح التى وهبت حياتها لكرة القدم .. فى أحد أركانه قد تجد ذاك الذى سقط من المدرج و هو يحتفل فصعدت روحه الى السماء , أو أولئك الذين خانتهم المدرجات من تحت أقدامهم و خرت بهم ليرحلو فى سلام .. تحت مظلة ما ربما تجد ذلك العجوز الذى داوم على الحضور خلف مرمى فريقه متوشحاً كوفيته الى أن جاءت صبيحة يوم ما استحت فيها الشمس أن ترسل ضياءً على كرسيه الشاغر .. أراهم جميعاً مهللين مستبشرين بأولى خطواته ..

لم يكن يعلم أن هذه البقعة التى وطأتها قدميه الصغيرتين تحوى بين طياتها حبةً ما .. حبةً قد نثر الله منها القليل على أرضه كما يُنثر الجوز على سطح الحلوى .. انفلتت تلك الحبة داخل قدميه كما انفلتت أخواتُها داخل أقدام من صنعو التاريخ و تربعو على عرشه ..

هى ذاتُ الحبة التى اصطادت أقدام ذلك الفتى المشاغب من لانوس – الأرجنتين دييغو أرماندو مارادونا

هى ذاتها التى احضتنت باطن قدم ذلك الطفل فى ولاية ريو دى جانيرو , رونالدو لويس الذى مرر الكرة من بين أقدام أطفال حارته ذهاباً و اياباً حتى أنهكهم .. هى أيضاً نفسُ الحبة التى اختارت من بين أطفال شمالِ مارسيليا ذلك الولد الهادئ الملقب ب"زيزو" الذى بدا من الواضح أنه يداعب الكرة كلاعب جيتار يداعب أوتار جيتاره الكلاسيكى .. اختلفت البلاد و الأجناس والألوان و الأٌقدام و الحبة واحده .

ربما ترانى مخبولاً لأننى أوشك على ربطه بتلك الأسماء .. لا أخفى عليك أننى أيضا أجد نفسى مخبولا قبل أن يعود ينازعنى ذلك الشعور الذى يخبرنى دائماً أنه .. لم لا ؟

تلك ال لم لا التى تجعلنى أتخيل ماذا لو كان هذا الفتى من مواليد ريو دي جانيرو ؟ ماذا لو كان قد حمله القدر الى مارسيليا أو بورتو أو نابولى .. ربما لوجدناه حينها منافساً على الكرة الذهبيه ؟ .. ربما

ربما كان أسطورة يتخيله الأطفال فى زى رومانى قديم متقلداً سيفه يجيئ اليهم فى أحلام نومهم و يقظتهم كما يجيئ فرانشيسكو توتى الى أطفال مدينة روما .. ربما كانت له أهازيج و أغنيات يرددها الآلاف عن ظهر قلب يلقونها على مسامعه كتلك التى كان يلقيها جمهور الأولد ترافورد على مسامع ريان جيجز .. ربما تصارعت شركات التأمين على الحظى برعاية قدميه كما هو الحال مع كريستيانو رونالدو ..

أقول .. اذا كان محل ميلاده هو ما يمنعه عن الدخول فى دائرة المقارنة مع هؤلاء الأساطير فليذهب محل الميلاد الى الجحيم و لتكن الكرة وحدها هى الحكم .. فقط الكره .

.. أوائل الألفينيات .. لم يلبث الفتى أن أدرك الخامسة عشرة من عمره حتى تم الحاقه بصفوف الفريق الأول بنادى الزمالك
كان نحيل .. نحيلٌ جداً يكاد لا يٌرى من قميصِه الأبيض سوى رأسه و ذراعيه السمراوتين النحليتين كذراعى مزارع لاتينيى لفحتهما شمس أغسطس , تبرقان تحتها كما تبرقٌ صفرة القمح .. كان مٌلفتاً , حتى اسمه كان ملفتاً ينطقه المعلقين من تحت ضروسهم يختلف كل منهم فى نطقه عن الآخر .. شيكابالا .. أتذكر حين كنت صبياً لم أتجاوز أعوامى العشرة الأولى حين فوجئت بأنه مصرى و اسمه محمود عبد الرازق شيكابالا .. لا أعلم لماذا ظننته افريقيا او ربما لاتينياً , كان يشارك مع صفوف الفريق الأول على استحياء .. يدفع به فى المدرب فى الربع الأخير من المباراه .. أتذكر لمساته الأولى , تطاوعه الكرة أحياناً و أحياناً لا كعادتها مع أى صاعد .. تكبله بغرورها و كبريائها , ترفض أن تُسلِم له نفسها من أول لقاء كفتاة عذراء تتوجسها الخيفة و يعتريها التردد و الخوف من الانغماس فى الحب .. تنفلت الكرة من تحت أقدامه يركض وراءها يفقدها ..
أتذكر اشتياط المتابعين غضباً منه .. من هذا النرجسى المعتوه الذى يرفض تمرير الكرة و هو لم يتم عامه السادس عشر بعد !؟
كان كأنه يعشق الاستحواذ على الكره , يركض يتوغل .. يتوغل أكثر , يوشك على التمرير .. ينازعه الطمع , جنون العظمة ذاك الذى يصيب الموهوب , فقط الموهوب دوناً عن بقية زملائه فى الفريق , تلك التهيؤات التى توحى اليه بأنه يستطيع أن يفعلها وحده , فقط وحده .. تٌخبره بأن الشباك ليست ببعيده فقط بضع خطوات أخرى للأمام , لا مانع من بعض المراوغات , لن يحدث شئ اذا مررت الكرة من بين أقدام هذا أو ذاك .. أستطيع فعلها والا ما الفارق بينى و بين غيرى ؟ ما فائدة كل تلك الجروح التى تحرشت بقدماى من كثرة اللعب حافياً فى الأحواش و الطرقات .. ما فائدة كل تلك السنون التى قضيتها مغترباً عن أهلى من أجل تلك اللحظة التى أركض فيها الآن بالكرة .. لن يعوضنى شئ سوى النجاح , فقط النجاح الساحق , أستطيع أن أصعد الدرج ثلاث درجاتٍ دفعة واحدة بدلاً من درجة واحده لم لا ؟ أستطيع فعلها فقط لو .. يفقد الكره , يٌحبط , يسخط عليه المدرب , يسخط عليه الجمهور .. لم يكن يعلم أن الكرة لابد لها من تضحيات , قرابين تقرب اليها , لكن قرابين الكرة ليست بطعام ولا بدماء ولا بحلى .. قرابينها الصبر , الاجتهاد و انكار الذات .. لم يكن يعلم أن الكرة فى حارته أو شارعه أو مدرسته ليست كتلك الكرة القاسيه التى تُمارس فى ملعبٍ أخضر يتسع ل 22 لاعباً من خلفهم جمهور عتيد و على الخط مدرب مطالب بتحقيق النجاح بك أو بدونك .. ربما لو أمضيت خمس سنين من الالتزام مع الكرة حينها من الممكن أن ترضى عنك وتطاوعك الى الأبد ..

كثير من الأساطير الكروية فى مرحلة ما من حياتهم كانو قد توصلو بطريقة ما الى زرع مغناطيس داخل أقدامهم يروض لهم الكرة حيثما شاؤو .. مغناطيس حسي ليس بمادي .. مغناطيس نبت من تربة المثابرة و ماء العرق ربما لو رأيت زيزو فى كأس العالم 2006 و طريقة تحكمه فى الكره و هو موشك على بلوغ منتصف الثلاثينيات لفهمت ما أعنيه .. رونالدينيو ذلك الفتى الراقص , حتى بعدما خمدت شُعلته و لفظت رشاقته أنفاسها الأخيره كان الرجل الأول داخل ال ايه سي ميلانو .. بأقل مجهودٍ يذكر كان يضع زملاؤه أمام المرمى أو يرسل الكرة الى المقص الأيمن من ضربة حره أو يستعيد ذكريات السيرك الكتالونى بتعليق الكرة من فوق أحدهم أو تمريرها من بين أقدامه .. ربما هذه هى المرحلة التى يتوصل فيها اللاعب الى نقطة اتفاق و رضاً متبادل مع الكرة .. يراقصها كعجوز يراقص مراهقةً فاتنه على أنغام موسيقى التانغو و أغنية Dance me to the end of love .. تحنو عليه , تربت على عنقه , تعوضه عن كل تلك السنين التى آلمته فيها , تطاوعه كما يريد علها تُطيب خاطره فى أيامه الأخيره .. كيف استطاع مالدينى أن يُكبِل ميسى فى عنفوان ألقه و الأربعون عاماً ينخرن عظامه حتى يكاد يسقط من فرط الوهن ؟

لا أعلم .. عل السر يكمن فى ذلك المغناطيس .. ربما .. أو أن الكرة آثرته على ميسى ولاءً له .. ربما .

فى عام 2003 كانت أول أهدافه مع القلعة البيضاء ضد فريق غزل المحله .. استلم الكرة على يسار المنطقه , التفكير البديهى لأى لاعب قد حباه الله عقلا طبيعياً يفكر و يتأمل , أول ما يخطر بباله هو أن يركض بالكرة الى الخارج خصوصاً اذا كان أعسراً حيث يمكنه أن يسددها فى الزاوية البعيده للمرمى أو على الأقل يمررها الى أحد المهاجمين , شيكابالا لم يفعل ذلك .. شيكابالا كعادته اختار الاختيار الأصعب .. توغل الى الداخل , خسر فرصة التسديد نعم لكنه مر بالكرة من بين اثنين من مدافعى الغزل ثم خرج بها و غمزها من أسفلها الى الزاوية البعيده ك "لوب" لتسكن الشباك .. الخيار الأصعب دائماً ما يتحول الى رهان .. كلما زادت قيمته كلما علا سهم الشغف و زاد الانجاز حلاوةً .. هى أشياءُ يقررها اللاعب بينه و بين الكرة ربما لا تصل الى وعى المشاهد ربما لا يدركها , أتعجب دائماً من ذلك السؤال الغبى الذى يصر المراسلين على طرحه على أسماع اللاعبي " كيف أحرزت الهدف الفلانى " , " كيف لعبت الكره بهذا الشكل " , و كيف له أن يعرف ؟ كيف للمنتشى أو للسكير أن يعرف ما تلفظ به أو ما صدر منه أثناء سُكره ؟
حاذ هدفه اعجاب الجميع و صدح المعلق معجباً بذلك الفتى ذو السبعة عشر ربيعاً قائلاً "شيكابالا لعيب كبير .. " 

لم يفعل شيكابالا الكثير مع الزمالك فى بدايته .. بل يكاد كأنه لم يلعب أصلاً .. لم يتذكره أحد حين انتقل الى نادى باوك سالونيك اليونانى
لم يشغل انتقاله الرأى العام ولا تساؤلات الجماهير .. لم يلحظ أحدٌ اختفاؤه .. ربما لتخمة الزمالك بالنجوم حينها أو لأنه لم يستطع تقديم ما يفوق كونه لاعباً موهوباً يستطيع التعامل مع الكره ..
ما أكثر الموهوبين و ما أكثر من هم قادرين على ابهارك و الكرة بين أقدامهم , لكن هناك شئ ما يفصل موهوباً عن موهوباً و لاعباً عن لاعب .. شئ قد يتعلق بالتوفيق , قد يتعلق بكم الحب الذى يُكنه اللاعب للكرة فتقرر أن تُفضِله على غيره .. أو ربما تُعلن ولاءها لأولائك الذين يلعبون الكرة بقلوبهم لا بأقدامهم , يمررون بقلوبهم يسددون بقلوبهم يحتفلون بقلوبهم , يركضون نحو المدرجات بقلوبهم , حين يُقبِلون شعار النادى يبدو جلياً أنهم يقبلوه بقلوبهم لا بشفاههم ..
على كل .. فليس كل من توافرت فيه الشروط المؤهلة للعب الكرة يعد لاعباً و ليس كل من أجاد التعامل مع الكره يعد معشوقاً للجماهير .

لعب لباوك اليونانى .. لم يتابع مسيرته الاحترافيه أحد .. لم تكن حينها قد وٌجدت السوشيال ميديا كما هو الحال الآن حيث أصبح المحترفون فى كل مكانٍ مصب اهتمام الرأى العام الكروى و محط أنظار المتابعين .. ربما ظن البعض أنها النهاية بالنسبة لذلك الفتى الموهوب .. حينها كنت نادراً ما أتذكره , أو أتذكره بذلك الفتى الذى كان يرفض التمريرَ و يلعب بأنانيه , ينطلق الى صفوف المدافعين كفدائيٍ ينوى تفجير نفسه داخل أجساد الأعداء .. و حينما يتصرف لاعب بأنانية داخل فريقٍ يضم بين جنباته حازم و حسام و جمال و الطارقين فهو اما أحمقٌ قد وٌضع فى مهنة ليست له أو هو أسطورةٌ و فلتة كروية ربما تحتاج لبعض النضج قبل أن تنفجر لافتةً أعينَ الشرقِ و الغرب ..

زمالك 2006 كان على وشك الهاوية بل ربما قد انجرف الى الهاوية بالفعل .. اعتزل نٌجوم الشباك لم يبق منهم الا القليل الذين قامو العَجز و الاصاباتِ قدر الامكان , كثرٌت المشاكل فى الادارة , تآكلت ميزانية الفريق , انهار النادى رياضياً و اجتماعياً , انهار كل شئ ..

فى ظل انهيار نادى الزمالك كان النادى الأهلى فى عز هيمنته على الكرة المصرية و الافريقيه بالاضافة الى مشاركاته فى كأس العالم للأندية بانتظام .. فى تلك الفتره كان الأهلى هو هدف كل لاعبٍ يتمنى من الله ألا تضيع حياته هباءً .. كان الأهلى هو البوابة الى أرض الفانتازيا و الخيال .. تنضم الى صفوفه حتى و ان لم تشارك كأساسى فعلى الأقل قد ضمنت راتباً يكفيك لشراء سيارة فارهه و شقة في أرقى مناطق القاهره و الزواج من احدى فتيات الزمالك أو المهندسين "بنات الذوات" .. أضف الى ذلك صيتٌ اعلامىٌ و شهرة غير مسبوقه , شهرة من اللاشئ .. أنت مشهورٌ فقط لأنك ترتدى القميص الأحمر , أعين الكاميرات كلها نحوك و كلها تنتظر منك حديثاً فقط لأنك لاعب فى صفوف الأحمر .. كيف للاعب شاب أو لاعب شارف على انهاء حياته الكروية أن يرفض كل ذلك !؟

فى المقابل .. فريق الزمالك فريق المهمشين و البسطاء ينضم الى صفوفه أولئك الذين رضو بالزمالك و مشاكل ادارته و عجزه المادى و اعتبروه أمراً واقعاً .. أو أولئك الذين لم يفاوضهم عدلى القيعى و لم يعرض عليهم تراب الماس و لبن العصفور فلم يجدو فى قائمة عروضهم سوي عرضاً هزيلاً من نادى الزمالك قبلو به مٌرغمين أو غير مٌرغمين ..

فى تلك السنوات بدا جلياً أن الانتماء فى كرة القدم قد يقف منهكاً أما نفوذ المال و الشهرة .. كثيراً ما سمعنا عن اللاعب الفلانى الذى اشتُهر بزملكاويته أباً عن جد لكنه فضَل الأهلى حرصا على مستقبله .. ثم قٌبض الانتماء و غٌسِل و كٌفِن عندما انتقل بعض اللاعبين الزملكاويه الى الأهلى عبر بوابة الزمالك .. يا لوقاحتهم ! يا لوقاحة المال الذى يضرب على الأبصار و القلوب .. ألم يٌخيل الى أحدهم أن هناك طفل فى مكان ما اعتاد على مشاهدتهم بالقميص الأبيض ثم نهرته الصدمة بعصاً على رأسه حينما استيقظ ذات يوم ليجد لاعبيه قد ارتدو الى الفريق الأحمر بكل بساطه ! .. و كأن ذكرياته معهم لاشئ , و كأن انفطار قلبه لأجلهم لم يكن ليساوى مليمٌ بائس يقف هزيلاً وسط ملايين الادارة الحمراء ..

تفتح الصحيفة صباحاً .. "الزمالك يفاوض اللاعب الفلانى الذى يرحب بارتداء القميص الابيض الذى هو حلمه منذ الصغر "

تفتح الصحيفة مساء .. "النادى الأهلى يحصل على توقيع نفس اللاعب الذى كان على وشك الانضمام لنادى الزمالك " ..

كان هذا ملخصُ سنواتٍ عديده .. دائرةُ مفرغةُ قضتها الكرة المصرية لسنوات تحت سيطرة و هيمنة ملايين الأحمر التى لا ينضب معينها .. و كلنا يعلم لماذا لم يكن لينضب معينها ..

فى خضم هذه السنوت العجاف التى كان الجنيه لغتها و الدولار سيدها و ولى أمرها , أتى الكلام من حيث أتى عن ذلك الناشئ الذى نضج و قلب ملاعب اليونان رأساً على عقب و هو الآن موشك على الرجوع الى مصر .. شيكابالا ! .. لا أعلم لماذا استفاقو أخيراً و تذكروه فجأه كأنه هبط عليهم من السماء .. تذهب الى الانترنت تلقى باسمه داخل محركات البحث فيظهر لك ذلك النحيل الأسمر يراوغ .. يسدد , يحرز أهدافاً لا تنطوى تحت سجل الأهداف العادية أو الممكنه
شيكابالا معروف بزملكاويته الخالصة مما أثلج صدور الزملكاوية تجاه تلك الصفقة التى ستحسم للزمالك بدون شك ..

أنباء عن مفاوضات الزمالك .. أنباء أخرى عن مفاوضات من الأهلى .. لا أعلم لماذا يفاوضه الأهلى ؟ ما الذى يدفعك الى التعاقد مع لاعب لديك فى مركزه طابور من اللاعبين الذين يأكلون لحوم بعضهم البعض من أجل رضا المدرب و حجز مكان أساسي ؟
هل هذا هو مبدأ "التكويش" ؟ .. أعترف بأننا تعلمنا على أيدى المدرسة الحمراء قوانيناً جديدةً فى عالم كرة القدم .. أحدها قانون "تعاقد مع اللاعب فقط لكي لا يتعاقد معه المنافس " ..
احتياجك له من عدمه ؟ لا شئ .. مستقبله معك ؟ لا شئ .. حياته الكروية التى ستقضى عليها ؟ ايضاً لا شئ .. فقط اصرف له الملايين , أغلق فمه و أوصد عليه باب دكة الاحتياط كي تأمن شره اذا ما انضم للمنافس .. لم يكن هذا ليحدث مع شيكابالا .. لم يكن هذا ليحدث مع لاعب من أولئك الذين ذكرتهم آنفاً – الذين يلعبون الكرة بقلوبهم لا بأقدامهم , يمررون بقلوبهم , يسددون بقلوبهم , يحتفلون بقلوبهم , يركضون نحو المدرجات بقلوبهم , حين يقبلون شعار النادى يبدو جلياً أنهم يقبلوه بقلوبهم لا بشفاههم ..

رعم تداول أنباء عن اقترابه من الأهلى .. رغم تقدمه للكشف الطبى داخل النادى الأحمر , الا أنه تراجع و ألقى بكل ذلك وراء ظهره عند أول مكالمة تليفونية أتته من داخل ميت عقبه , مع أول مكالمة مست تلك المضغة الحمراء داخل صدره .. الزمالك .. كيف له أن يترك الزمالك ؟ ..
كيف له أن يتخلى ببساطه عن عشرون سنةً أو يزيد قضاها فى عشق شخصٍ ما , شخصٌ غير مرئى , ربما لو كان مرئياً لأراح كثيراً من القلوب المنهكه .. ذلك الشخص هو الزمالك .. الذى لا تدخل الملايين معه فى مقارنة , لا تسير معه فى طريق واحد .. كيف له أن يترك الزمالك ؟
كيف ستحمله قدميه اذا ارتدى قميصاً غير قميصه ؟ كيف ولم ستساعده على النهوض اذا ما سقط يوماً؟ ..
بالطبع اختار الزمالك , بالفعل انضم للقلعةِ البيضاء وارتدى قميصها عاشقاً مريداً مرغماً بقوة الحب و الوفاء .. انطلق الى الزمالك كعروسٍ فرت يوم زفافها , فرت الى حبيبها الذى حرمتها الحياة منه و الدموع تسرى على خدها سوداءَ ممزوجةً بكحل عينيها ..
انطلق الى الزمالك راكضاً حاملاً كمانجته ليلحق بميعاد عرض الأوركسترا الذى تأخر عنه .. لو كنت مكانه لركضت بأقصى سرعتى فقط لأحجز مكاناً داخل تلك الأوركسترا التى قد تكون متواضعةً حينها , آيلةً للسقوط , قد يكون الزمان قد نهشها , الا أن قائدها هو المعشوق الأوحد حازم امام .. لو كنت مكانه لركضتٌ بكل ما أملك من قوة ..

يُقال أن شيكابالا لعب طوال فترته مع الزمالك بعقد الناشئين الذى يكفل له مبلغاً ضئيلاً كان نجوم الأهلى يأخذون أضعاف أضعافه فى السنة الواحده .. يٌقال ان شيكابالا يوماً ما رفض أن ياخذ راتبه وفضل ان يتم صرف رواتب العاملين ..
هل قلت أن الانتماء قد قُبض و غُسِل و كٌفن ؟ .. لا .. لم يكن الانتماءٌ ليٌقبض و يغَسل و يٌكفَن و شيكابالا حيُ يتحسسٌ المستطيل الأخضر بقدميه و يشمٌ عبير نَجيله الطبيعى الذى خالطه ندى الصباح .. ربما كان الانتماءُ حينها شخصاً مادياً يعيش بيننا لا نعرفه و لا يعرفنا .. شخصُ فى ريعان شبابه يحضر معنا مباريات الزمالك فى المدرجات يغنى , يرقص , يهتف , يبكى , يصدحُ فيصدح وراءه الآلاف فى المدرجات و الملايين أمام شاشات التلفاز " شيكابالا شجعووه زملكاوى زى أبووه " .. يركض الى الملعب بعد انتهاء المباراة ليحتضنه , يلتقط صورةً معه .. هل التقطت صورةً مع الانتماء من قبل ؟ , ربما قد التقط الانتماء لنفسه صورةً مع شيكابالا ..

أهدافٌ تلو الأهداف .. أهداف ليست كالأهداف بل هى أقرب الى حلمٌ جميل تصحو منه حزيناً على انتهائه .. مراوغاتٌ لا نراها كل يوم , صناعاته للاهداف , شيكابالا يطير بالكرة كالغزال , ركضه سلس مريح للعين و الأعصاب .. يقفز نحو السماء , يمتص أعتى الكرات على وجه قدمه الخارجى كالبلسم يٌطيب جرحاً غائراً , يقف فى الهواء لثانيةٍ , تنعدم الجاذبية ربما أو ربما يهبط بعباءة سوبر مان الحمراء , تأتيه الكرة فينزاح العبء من على عاتق المشاهد .. دائماً ما أرى أن اللاعب الجيد هو الذى يٌشعرك بأن الكرة فى أمانٍ بين قدميه .. الكرةٌ بين قدمى شيكابالا كانت كطفلة بين يدى أمها , تصفف لها شعرها بتؤدة .. تضفره لها و هى تغنى ..

يركض على الخط , ينزوى الى الداخل كقطٍ أصابه الجنون يركض الملعب بعرضه يترامى خلفه المدافعون ككرة بولينج اقتحمت صفاً من الزجاجات البلاستيكيه , يسدد فى الزاوية البعيده , هدف !ّ يركض نحو الجماهير يتحرك فمه بكلمات و هو يركض ل, كلماتٌ لا تتبين ماهيتها , ربما يٌعلن عن حبه للقميص الابيض على جسده ربما يٌعلن عن غضبه من شئٍ ما ربما يسب أولئك الذين يتعمدون ايذاءه فى المدرجات و فى الاعلام , ربما يقول لهم تباً لكم جميعا ً , تباً لك و لك و لك .. أرونى ما لديكم ..
يخترق من العمق , يخترق من الأجناب , شيكابالا فى كل مكان , لا تستطيع السيطرة علي جنونه .. تأتيه الكرة على خط التماس , ينقض عليه اثنان من المدافعين الغاضبين , يلتحمان معه , تختفى الكرةٌ لوهله بينهم الثلاثه ثم تظهر متبخترةً على خط التماس , ممرةٌ الى الجناح الأيمن الآتى من الخلف يركض , يرفع يديه من وسطهم كعلامةٍ أن الكرة لم تعد معه بعد ولا داعى للشد و الجذب ..

لم يكن متوقعاً , يمرر تمريرات لم يكن ليمررها شخص ينظر الى الملعب بواسطة GPS .. كراتُ مقوسة ليست من عالمنا , ركلات حرة أصبحت كركلات الجزاء , يرسلها الى أحد المقصين , يركض محتفلاً , يتردد فى أذنك حينها كلاسيكية من كلاسيكيات أحمد منيب أو منير , أو دٌفاً نوبياً مزج قرعه مع رنينٌ عودٍ و هديرٌ ماءٍ يشقه مركب صيدٍ ناصع البياض ..

فى عام 2006 استطاع الزمالك أن يفوز على الأهلى 2-0 و كان شيكابالا نجم اللقاء .. لم يكن اللقاء ليرضى الجماهير البيضاء لأن الأهلى كان حينها قد حسم اللقب و دفع بالصف الثانى من لاعبيه أمام الزمالك المتكامل العدد ...

نهائى كأس مصر 2007 بين الأهلى و الزمالك .. الأهلى بكامل عدته و عتاده و الزمالك معه ما تيسر من اللاعبين و شيكابالا ..

بدأ شيكابالا المباراة احتياطياً .. حما وطيسٌ المباراه .. أظنٌه حينها كان يتمنى النزول الى الملعب أكثر من أى شئ .. لم يكن لاعب مثل شيكابالا ليرتعد خوفاً من قوة المباراه أو يتهرب منها .. نزل فى الشوط الثانى , أحرز هدفاً جنونياً و خلع قميصه و انطلق الى مدرجات الأبيض يصاحبه صوت مدحت شلبى معلقاً "يسلام عليك يا شيكابالا يا مشطشط يا سبايسى ! .."

أعطى درساً قاسياً لوسط و دفاع الأهلى بامكانك أن تسأل وائل جمعه و أحمد السيد و حسام عاشور عنه .. كان يتسلل من بينهم يمر بجانبهم فتطير سراويلهم و قمصانهم بفعل هوائه , يمر بجانبهم ك فيرارى تمر على فيات 128

من عام 2006 لعام 2012 بامكانى أن أقول لك أن شيكابالا كان هو ذلك الفرعون الذى يصوب سهمه على شعار نادى الزمالك .. فعل كل شئٍ فى الكره , عشقته الجماهير و عشقها , وقف أمامهم و وقف بينهم , أٌلفت له أغنياتٌ كان يهدر بها صوت الآلاف .. أعلن ولاءَه لرابطة الألتراس منذ اللحظة الأولى من تأسيسها .. فعل كل ما يمكن أن يثير اعجاب مشجعى الأبيض الذين يصعب اثارة اعجابهم بسهوله .. صٌنعت له مقاطع فيديو ملأت اليوتيوب عن آخره , أشعل الساحة الكروية و وقف يتأملها مبتسماً ..

لم يهتم يوماً بالمقابلات الاعلاميه ولا المصاطب التحليليه , مقابلات ما بعد المباراه كان يعتذر عنها حتى أننا أمضينا السنة و السنتين دون أن نعرف نبرة صوته .. هل هو رفيعٌ أم عريض , حادٌ أم أجش ؟
زهد فى كل شئ ربما لأنه لا يستطيع تحمل ما تخفيه الكاميرات من زيفٍ , ربما لم يقدر على الجلوس أمام أولئك الفسدة ذوى ربطات العنق الذين يجلسون أمام الكاميرات بابتساماتهم اللزجه .. و الذين بدورهم قررو الانتقام منه جزاءً له على تعنته و غروره معهم و أقامو حروباً ضروساً ضده .. أشاعو أنه غير مسؤول , عديم الالتزام , معتوهٌ يلعب كرة القدم , منحلٌ أخلاقياً , جالبٌ للمشاكل , شيكابالا يتقاضى من الادارة البيضاء ما يكفى لحل مشاكل النادى اجتماعياً و رياضياً ! , عاثو فى عقول الناس فساداً , كانو يُحيلون أى انتكاسةٍ تحدث على رأس شيكابالا , لو لم يفعل شيكا كذا لكان كذا , ولو فعل كذا لكان كذا , كانت اشاعاتهم الخبيثة عاملٌ رئيسى فى استبعاده من المنتخب و هو الأمر الذى مازالت تحوم حوله علامات الاستفهام التى لا أجد لها جواباً .. كيف للاعبٍ أحرز فى أربعة مواسم 57 هدفاً و هو لاعب وسط و صنع ما يفوقهم , كيف له ألا ينضم للمنتخب و يتم تجاهله فى قائمتى أفريقيا 2006  و 2008 لأسبابٍ غامضة ؟
ولأن اللاعب زملكاوى لم يقف عنده الاعلام الأحمر ولم تٌلقى الاستديوهات التحليلية للأمر بالاً و لم يكن الأمر موضع تساؤلٍ حتى بالنسبة للجماهير , لأنهم قد بٌرمجت أدمغتهم على أنه لاعب منحل متسيب استبعاده أمرٌ طبيعىٌ جداً ..

ظٌلم بينٌ وقع على شيكابالا من قِبل حسن شحاته مدرب المنتخب المصرى .. شيكابالا الذى حمل على أكتافه فريق الزمالك بمجموعة لاعبين متواضعي المستوى لأربعة مواسم , كان نادراً ما ينال مستحقاته خلالها , يتعرض لحربٍ ضروس على قنوات الاعلام الأحمر , و حرب جماهير الأحمر ضده و هتافاتهم العنصريه التى طالته و طالت والدته .. لم يكن ذلك كافياً لضمه الى المنتخب المصرى ..

أرى من بعيد ذلك النحيل الأسمر يجلس على شاطئ النيل فى أرضه أسوان .. الشمسٌ فى مغيبها و السماء متشحتةً بالصفارِ القاتم  .. ذلك المعشوق الذى لطالما تغنت باسمه الآلاف , الذى زرع البهجة فى قلوب الصغار و الكبار , الذى كانت تزدهر خضرةَ الملاعبِ لقدومه .. يجلس الآن وحيداً ..حزيناً ربما .. يجلس وحده تاركاً كل ذلك الزخم المزيف فى القاهره , تاركاً كل أولئك الذين غرسو مدياتهم فى ظهره , زاهداً فى الدفاع عن نفسه , زاهداً فى حق الرد .. يأتيه صوت أحمد منيب من مكانٍ ما كأنه وحىٌ من السماء " بحب أصاحب كل شئ صادق ما أحس بأى سور بينى و بينه أو فارق .. و أفارق كل شئ فى الدنيا مش صاحب , و انا .. انا ع الوعد متصاحب .. "

يندمج مع ذاك الصوت , يشدو , يتهلل وجهه , يخرج من حزنه شيئا فشيئاً يغنى معه المقطع الذى يليه , يغنيه لفانلة الأبيض التى لم يعد له سواها  , أو ربما يغنيه لعشيقته المستديره التى وحدها من تستطيع استيعاب جنونه " بحبِك بحبك فى لون الضى فى بكره المبتسم و الجاى .. فى نظره خايفه و خايفه علىً .. بحبِك " .. 

يتبع ..


  • 2

   نشر في 24 يناير 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا