كانت جميع نوافذ القصر مفتوحة طوال الليل، و الغريب أنها كانت تصدر صوتا و ضجيجا لا يحتمل. و لكن ما العمل فلا أحد يقطن هذا المكان المهجور، العائلة الأخيرة التي كانت تسكنه ماتت بطاعون. و أصبح القصر بدون مالك، و لا حارس. و في هذه الليلة بالذات، أضيئت أنوار القصر، كأنها مزحة ثقيلة، ذهبت بجميع الأحداث. أيعقل أن يكون القصر مسكونا، أو الليلة ستقيم الأشباح حفلة و تنتظر الساعة منتصف الليلة لتبدأ حفلتها الخفية عن أنظر البشر. يجب الإقتراب أكثر من هذا القصر المضيء و معرفة ما يجري، فالفضول يقتل الجميع.
في هذه الساعات المتأخرة من الليل، إقترب شاب في العشرينات من مدفئة قديمة، كساها الغبار غطاءا سميكا، تحتمي به في ليالي الشتاء الباردة، تفطن إلى انه لا يوجد حطب كافي لإشعار النار، فخرج مرتديا معطفا باليا عل كتفيه، و ضاع في الظلام الداس، و بعد لحظات عاد حاملا القليل من الأعشاب اليابسة و بعض من قطع الاشجار الخفيفة، حاول ايجاد المطيخ لإحضار كبريت لإشعال المدفئة و بعث أجواء دافئة في هذا القصر الوحيد. و أخيرا بعد دخول عدة غرق متجاورة وجد المطبخ في أخر الرواق. كان كئيبا حزينا، فلقد إتخذت منه العناكب منزلا لها بدون إستأذان، و طرحت في كل ركن فيه انسجتنها و شبكتها المخزنة لعدة ضحايا من الحشرات المختلفة. و عندما توجه نحو الشباك المفتوح وجد علبة كبريت بها عود واحد صالح للاستخدام. كأنه أخر فرصة للشاب، عليه أن يستحسن إستعمالها بثبات و إلا مات من البرد. حمل ذلك الكبريت مسرعا نحو الغرفة الواسعة التي تبن أنها إحدى القاعات الكبرى لإجراء الحافلات اليومية لهذا العائلة الغامضة و التي لم تترك ورائها غير هذا المبنى الحزين الوحيد. و بكل تركيز تام أشعل المدفئة، فأنعشت المكان و أعادت إليه الروح الميتة و تنفس الشاب من الإرتباك الذي خطف بريق وجهه. من ثم رفع نظره مستكشفا للمكان فوجد كرسي جانبا، حمله بكل قوته و وضعه أمام المدفئة مباشرة و ذهب في نوم مريح.فلم يبقى الكثير حتى يطلع الفجر و يدب النهار في الأرجاء، و لكن الأهم عنده الآن هو الراحة .
مع زقزقة العصافير, و لحن العندليب، نهض هذا الشاب المجهول الهوية ببطء من نومه، و ظل يتكاسل في القيام من على هذا الكرسي العتيق. و لكن بعد تأمل طويل في المدفئة النائمة، قام يمشي بثبات يبحث عن أحد متساكني القصر، رغم إحساسه بخلو هذا المكان البعيد من أي ساكن. و لأنه لم يفقد الأمل، راح يدخل كل غرفة و كل باب يعترضه يفتحه، و بعد فترة جيدة. و فترة إستكشاف مهمة، تيقن أن هذا المكان وحيد حقا و لا يسكنه أي شخص، فقط الصور المتسخة بالغبار موضوعة في كل غرفة، حتى أن غرفة الجلوس التي لم تكن كغرف الجلوس العادية فالواضح أنه إلى جانب ذلك مكان للإقامة الحفالات الرسمية و الغير مهمة.
عاد إلى ذلك الكرسي العجوز، و دخل في حلبة أفكار لا متناهية،:" ترى أين هؤلاء الأشخاص؟ و ماذا حل بهم؟ أيعقل ان يكون هذا المكان ملعون؟ و كل من إقترب منه أصابته اللعنة. لا هذا غير صحيح ... " هكذا ظل يتحدث في نفسه و الحوار لا ينتهي.
و فجأة سمع صوتا ما، خرج مسرعا يستكشف المكان و علامات الراحة إعتلت ملامحه. فهذه بشارة خير، و دليل على أن المكان مألوف للبعض حتى يمرون من أمامه و دليل آخر على وجود متساكنين في المنطقة. و لمح من بعيد عربة مارة بسرعة لكن لم يستطع أن يدقق فيها لأنها كانت في عجلة من أمرها، كهذا تبين له.
يتبع....
-
راضية منصورمختصة بدارسة قانون سنة ثالثة دكتوراه