رحلة الإمام أبي بكر الباقلاني إلى بلاد الروم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رحلة الإمام أبي بكر الباقلاني إلى بلاد الروم

  نشر في 06 يونيو 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

كان القاضي أبو بكر الباقلاني من علماء المسلمين في القرن الرابع الهجري في العهد العباسي وعهد الدولة البُوَيْهِيَّة، التي سيطرت على أغلب مساحة العراق آنذاك.

وقد ذاع صيت الباقلاني لسعة علمه وكثرة مؤلفاته، وكانت له عدة مناظرات مع المعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة، استطاع فيها أن يفحمهم وأن يظهر ضعف حجتهم، وخلل دينهم.

ولما سمع الملك "فَنَّا خسرو" عضد الدولة البويهي عن فطنته وعلمه وَحِدَّة بديهته، بعثه إلى بلاد الروم في مهمة سامية تتعلق بالسياسة الخارجية للدولة، وكان ذلك عام ٣٧١ للهجرة.

استقل الإمام الباقلاني سفينة من سفن الأسطول الملكي، وفي أثناء رحلتها إلى بلاد الروم دار بينه وبين القبطان الحوار الآتي:

   - القبطان: هل أرسلك الملك فقط لإبرام المعاهدة مع الروم، أم أن هناك أمرا آخر؟!. فضيلة الإمام القاضي.

   - الإمام الباقلاني: وما الذي دفعك للتفكير في أمر آخر، أيها القبطان؟.

   - القبطان: لأنك يا سيدي القاضي لست شخصا عاديا، أنت من علماء المسلمين، فلا بد أن للرحلة أهدافا أسمى !.

   - الإمام الباقلاني: صَدَقَتْ فراستك أيها القبطان .. إن ملك الروم يحب المناظرات العلمية، ومن هنا كانت لدينا الفرصة لنبين لهم عقيدة المسلمين، وانحراف عقيدة نصارى الروم.

   - القبطان: وفقك الله يا قاضي المسلمين، لقد أخذت الطالع لخروجك، وسألت المنجمين عن رحلتك هذه، أهي ميمونة أو مشؤومة !.

   - الإمام الباقلاني: حتى أنت أيها القبطان تصدق بهذه الأمور الفاسدة، التنجيم لا يمت الإسلام في شيء، ولا يدرك الغيب أحد إلا الواحد القهار، أو من ارتضى من رسله بإذنه تعالى، واعلم أخي أن الخير والشر بتقدير الله، وليس للكواكب والنجوم ها هنا مثقال ذرة من القدرة. وإنما وُضعت كتب المنجمين ليتمعش بها الجاهلون بين العامة. ولا حقيقة لها.

   - القبطان: ونعم بالله ..

ولما وصل الباقلاني إلى بلاط ملك الروم بالقسطنطينية، واستعد لملاقاته. كانت المفاجأة ..

علم الملك بقدومه، فأرسل إليه وزيرا من حاشيته ليتلقاه. عند ردهة القصر اعترض الوزير على هندام فضيلة الشيخ الباقلاني، وقال له:

   - معذرة يا قاضي المسلمين، لا يُسْمَحُ لك بالدخول على الملك بهذه العمامة حتى تنزعها، ولا بهذا الزي حتى تستبدله، وأن تخلع خُفَّيْكَ أيضا.

فأجاب الإمام الباقلاني:

   - لا والله لا أفعل ذلك، ولا أدخل على الملك إلا بما أنا عليه من الزي واللباس، وإلا فَخُذْ هذه الرسالة اقرؤوها وردوا بجواب لأعود به.

فقال الوزير:

   - ولكن ما المانع .. هذه أعرافنا، فلماذا تظن نفسك مختلفا ؟.

رد الإمام الباقلاني:

   - اسمع يا وزير الملك .. أنا رجل من علماء المسلمين، وقد رفعنا الله بالإسلام، وأعزنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأيضا، إن من شأن الملوك إذا بَعثوا رُسلهم إلى ملك آخر، أن يرفع أقدارهم ولا يقصدوا إذلالهم، لا سيما إن كان الرسول من أهل العلم، فإن أراد مني الدخول دخلت كما أدخل على خليفة المسلمين، وإن كره ذلك فليقرأ رسالتنا ويرد الجواب ويردنا أدراجنا إلى صاحبنا، ولا حاجة لنا في اللقاء.

فلما عرف الملك ما دار بين وصيفه والإمام الباقلاني، نزل على رأيه وأمر بأن يدخل كيفما يشاء، وقد عرف منزلة القاضي الباقلاني وما أوتيه من سعة العلم، وقوة الشكيمة، وسرعة البديهة، وأنه مبجل في المسلمين ذو شأن عظيم بينهم.

وقبل مُثول الإمام الباقلاني بين يدي الملك، كان يدرك هذا الأخير أن الذي رفض أن يخلع خُفَّيْهِ عند لقائه، جدير ألا يركع أو ينحني عند دخوله، فأراد الطاغية خديعته أن أوصى حاشيته بتقزيم الباب وجعله قصيرا، بحيث يُضطر القاضي الباقلاني إلى الانحناء والركوع عند ولوجه، فيُذَلُّ أمام أعيان الملك وحاشيته.

فلما رأى فضيلة الإمام الباقلاني ذلك؛ عرف الحيلة، فالتفت وأدار جسمه ثم دخل وهو يمشي إلى الخلف مستقبلا الملك بقفاه بدلا من وجهه. هنا تعجب ملك الروم من فطنته وعلم أنه أمام داهية.

دخل الإمام فحياهم ولم يسلم عليهم، ثم انصرف إلى قاعة الضيوف كي يستريح من عناء السفر. وبينما هو في حجرته أقبل إليه وزير الملك، وطرق عليه الباب:

- الإمام الباقلاني: تفضل يا وزير الملك

- الوزير: الملك يريد أن يطمئن عليك، وإن كنت قد استرحت من سفرك، ومن مراسم الاستقبال، فإن هناك شأنا من شؤون العقيدة يريد الملك أن يناقشه معك بنفسه. فهل أنت مستعد لذلك يا قاضي المسلمين؟.

- الإمام الباقلاني: بمشيئة الله وبمعيته، كل ما تطرحونه ستجدون جوابه ها هنا يا وزير المملكة؛ مشيرا بسبابته إلى رأسه .. أخبر الملك أنني سأكون حاضرا في الموعد الذي اتفقنا عليه.

ولما حان موعد اللقاء، دخل الإمام الباقلاني حجرة المناظرة معتدل القامة يمشي وهو يُقْبِل على كرسي الملك شامخا ذو مهابة وغلظة.

فقال له الملك:

   - أخبرني يا قاضي المسلمين، ما تقولون في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ؟.

الإمام الباقلاني:

   - روح الله وكلمته، وعبده، ونبيه، ورسوله كمثل سيدنا آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

الملك:

   - يا رجل، تقولون إن المسيح عبد.

الإمام الباقلاني:

   - أجل، هكذا نقول، وبه ندين.

الملك:

   - ولا تقولون أنه ابن الله.

الإمام الباقلاني:

   - معاذ الله، ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله. فإذا جعلتم المسيح ابن الله، فمن أبوه وأخوه وجده وعمه وخاله، وأخذ يعدد عليه الأقارب.

أخذ الصمت الملك لهنيهة، فاستدرك القول:

   - هكذا إذا، فهل العبد يَخلق، ويُحيي ويميت، ويبرئ الأكمه والأبرص.

الإمام الباقلاني:

   - لا يقدر العبد على ذلك، بل ذلك كله من فعل الله عز وجل.

قال الملك:

   - ولكني أعرف أن كتابكم القرآن قد ذكر أن المسيح فعل كل ذلك. خلق وأحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، ثم أنت تأتي وتنفي ذلك كله، وتقول أن المسيح عبد؛ أَعَبْدٌ ويَخْلُق؟!. أَعَبْدٌ ويحيي الموتى؟!. أَعَبْدٌ ويبرئ الأكمه والأبرص.

الإمام الباقلاني:

   - ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة، أن الأنبياء عليهم السلام يفعلون المعجزات من ذاتهم، وإنما هو تدبير الله تعالى على أيديهم .. لقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه أن المسيح عليه السلام لم يقم بذلك من تلقاء نفسه، وإنما كل ذلك من تدبير الله جل في علاه، لا من ذات المسيح. خلق من الطين طيرا ثم نفث فيه الروح بإذن الله، وأحيى الموتى فقط بإذن الله، وأبرأ الأكمه والأبرص أيضا بإذن الله وحده لا شريك له .. ولو كان المسيح يُحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص من ذاته وقوته؛ لَجَازَ أن يقال إن سيدنا موسى فلق البحر، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من تلقاء نفسه، ولجاز أن يقال أيضا، إن سائر معجزات الأنبياء رضوان الله عليهم كأنها من ذاتهم وأفعالهم دون إرادة الخالق. فلما كان ذلك لا يجوز عليهم، لم يجز أيضا أن تسند المعجزات التي ظهرت على يد المسيح إليه، بل معجزات المسيح كمعجزات سائر الأنبياء، كلها بإذن الله وحده .. فَصُعق الملك وحاشيته.

ولما يئس ملك الروم ومن معه من مناظرة قاضي المسلمين أبي بكر الباقلاني، عقدوا العزم على تأجيل المناظرة إلى يوم الغد. فلما كان من الغد، بعث الملك رسوله إلى فضيلة الإمام الشيخ، وقد تزامن ذلك مع موعد صلاة العصر، فتأخر فضيلة الإمام عن الحضور حتى يؤدي صلاة العصر، ولما فرغ منها، اقتيد برفقة الوزير إلى قاعة الملك، وسرعان ما أخذ يشك في خبث الملك وأعوانه، حيث كانت الوجوه غير مألوفة تشف عن مكنون دواخلها الخبيثة، وقد كانت شكوك الإمام الباقلاني في محلها إذ ما لبثوا أن استهلوا المناظرة بذكر زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم بسوء، لإغضابه والنيل منه .. فماذا كان رد الباقلاني وكيف أفحمهم؟.

الملك:

   - تفضل يا قاضي المسلمين، ما عهدناك تتأخر لحظة عن موعدك، فما أَخَّرَك ؟!.

الإمام الباقلاني:

   - كان الموعد بعد صلاة العصر كما اتفقنا يا ملك الروم، وقد حضرت ما إن انتهيت من الصلاة.

قال الملك متعجبا:

   - لم يخطر ببالي البتة أن ألتقي بمن يقدم أي موعد عن موعدي !!.

الإمام الباقلاني:

   - الصلاة عندنا يا ملك الروم، كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وقول الله أكبر في الآذان عندنا يذكرك بأنه جل جلاله أكبر من كل شيء.

الملك:

   - لا عليك يا قاضي المسلمين، دعنا من هذا الموضوع ولنكمل ما بدأناه بالأمس. لدى هذا القس سؤال نريد منك جوابا له. تفضل، بح بما في جعبتك أيها القس.

القس:

   - أخبرني أيها القاضي، ما قولك فيما فعلت زوجة نبيكم عائشة.

أراد اللئيم أن يطعن أم المؤمنين في شرفها...

فقال له الإمام الباقلاني:

   - عندما عجز المنافقون عن النيل من محمد عليه أزكى الصلاة والسلام، أرادوا طعنه في ظهره فتكلموا في حق زوجته ما تكلموا، وخاض معهم من خاض دون علم، وقد بَرَّأها ربنا من فوق سبع سموات وبَيَّن لهم فحش قولهم، وفضح المنافقين وأخزاهم.

القس:

   - أجل، من يصدق بكتابكم القرآن سيصدق بهذه الرواية. لكننا نطلب من جنابك برهانا ماديا، بعيدا كل البعد عن القرآن، فلو كنا مؤمنين به، لما دارت بيننا هذه المناظرة من الأساس.

الإمام الباقلاني:

   - يا حضرة القس، ألا تعلم أنني قبل أن أكون عالما من علماء المسلمين، أني قاض، فدعني أعلمك قاعدة جوهرية لعلها تنفعك يوما ما. تقول القاعدة "إن البينة على من ادعى" أي أنك المطالب بإعطائنا الدليل، لا أنا.

القس:

   - أما الدليل فليس عندي، فهذه مسألة وقعت على أرضكم، وما أنقل لك إلا كلاما ردده بعضكم.

الإمام الباقلاني:

   - دعنا نتفق على شيء، ألم يقل اليهود في مريم ما قالوا فيها بعدما أتت بسيدنا عيسى تحمله، ألم يقل بعضهم { لقد جِئتِ شيئا فَرِيًّا }. ألا تعلم أن بعضهم ما زال يردد هذا البهتان العظيم.

قاطع الملك حوارهما قائلا:

   - بلى، ما زالوا يرددونه إلى اليوم.

الإمام الباقلاني:

   - إذا، هما امرأتان في التاريخ، امرأة لم تتزوج وهي سيدتنا مريم ومع ذلك أنجبت ولدا، وامرأة تزوجت وهي سيدتنا عائشة رضي الله عنها ومع ذلك لم تنجب ولدا. فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال زينة؛ فأيهما تكون أولى بالتهمة الباطلة وحاشاهما رضي الله عنهما، وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء. لكنكم أنتم اتهمتم التي تزوجت ولم تُنجب، ونحن بَرَّأَنا التي لم تتزوج وأنجبت ولدا.

تزعزع القس، ولم يدري ما دهاه، وطال صمته، فقال له الملك:

   - أيها القس، هل لديك ما تضيفه بعد هذا الجواب.

تلعثم القس وقال:

   - الحقيقة .. الحقيقة ..

فقاطعه الملك:

   - الحقيقة أن زمن المناظرة قد شارف على الانتهاء، وغدا، فلتعد نفسك لمناظرة أخرى يا قاضي المسلمين.

واستمرت المفاوضات بين القاضي أبي بكر الباقلاني وبين ملك الروم بخصوص المعاهدة بين المسلمين وبين الروم عدة أيام تخللتها بعض المناظرات. وكانت مناظرة اليوم، هي انتقال من الدفاع ودرئ الشبهات، إلى الهجوم المباغت الذي لم يتوقعه الخصم.

قبل انعقاد المجلس بقليل، انفرد وزير الملك خلسة في حجرة الضيوف مع الإمام الباقلاني، وقد بدا محتارا وكأن كلام القاضي أثر فيه بشكل بليغ.

وزير الملك:

   - سأصدقك القول يا قاضي المسلمين، كلامك في المناظرات السابقة اخترق قلبي من دون استئذان، ولا أجد ذريعة لإنكاره، كما لا أقوى على تكذيبك. ولكن ما زال في صدري لبس من الإسلام لا أفهمه.

الإمام الباقلاني:

   - وما هو يا وزير المملكة؟. أفصح.

وزير الملك:

   - أنتم المسلمون عندكم عنصرية. أجل عنصرية، تبيحون لأنفسكم زواج اليهودية أو النصرانية، ولا تبيحون لغيركم الزواج ببناتكم.

رد عليه الإمام:

   - نحن نتزوج اليهودية لأننا آمنا بسيدنا موسى، ونتزوج النصرانية لأننا آمنا بسيدنا عيسى، وأنتم متى ما آمنتم بسيدنا محمد زوَّجناكم بناتنا.

تقهقر الوزير مبهوتا، ثم قال:

   - يا إلهي، ألديك جواب لكل شيء؟!!.

الإمام الباقلاني:

   - اليوم، أنا أسألكم يا وزير المملكة، وأنتم مُوَكَّلون بالإجابة.

فحضر أبي بكر وقد احتفل المجلس بقدومه، وبولغ في الزينة، فأدناه الملك وألطف سؤاله، وأجلسه على كرسيه دون سريره بقليل. والملك في أبهته ونشوته، عليه التاج، والذرية ورجال مملكته على مراتبهم قاعدين بجانب البطاركة وكبار القساوسة.

فقال أبي بكر الباقلاني للملك:

   - حسب ما فهمت يا ملك الروم، أنكم تقولون أن اللاهوت اتحد بالناسوت، فكيف ذلك؟!. هل من الممكن أن تفسر لنا؟.

الملك:

   - الأمر بسيط جدا، اللاهوت، أي أن الإله عندنا له صورته الإلهية المتمثلة في الأب؛ أما الناسوت، فهو الصورة البشرية المتمثلة في المسيح الإبن.

الإمام الباقلاني:

   - ولكن لماذا؟. ما الدافع لأن ينقسم الإله إلى صورتين، أو ثلاثة بإضافة روح القدس حسب زعمكم.

الملك:

   - لقد كانت الغاية من نزول الإله في صورته البشرية، ثم صَلْبه هي أن يخلص الناس من ذنوبهم، وهو ما يعرف عندنا بعقيدة الخلاص.

الإمام الباقلاني:

   - حسنا، فسؤالي هو: هل كان المسيح عليه السلام يعلم أنه سيصلب ويُفعل به ما فُعل أم لم يكن يعلم ؟!.

الملك:

   - ربما علم أنه سيصلب، وربما لم يعلم. لا أدري ما المغزى من سؤالك؟.

الإمام الباقلاني:

   - لأنه إن لم يدري ما عزم اليهود عليه وما نَكَّلوا لأجله؛ لبطل أن يكون إلها، وإذا بطل أن يكون إلها، بطل أن يكون إبنا، فمقام الألوهية يقتضي علمه للغيب؛ أما إن درى مسبقا ودخل في هذا الأمر على بصيرة، فليس بحكيم، لأن الحكمة تمنع من التعرض للبلاء. فكيف يكون إلها كما تزعمون، ويُعذب ويصلب.

ثار وزير الملك مهللا:

   - لا إله إلا الله

فهاج الملك في وجهه:

   - ماذا تقول يا وزير المملكة؟!.

وزير الملك:

   - لا شيء، فقط أتعجب من حجة هذا المسلم. لقد فتننا في ديننا!!.

نهض أحد عظيم البطاركة، وقال لفضيلة الإمام الباقلاني:

   - هل انشق القمر لنبيكم حقا؟!.

قال الإمام الباقلاني:

   - صحيح

قال البطريك:

- فلماذا لم يراه إلا أهل مكة؟.

فقال له الإمام المسلم:

   - حضرة البطرك، هل نزلت المائدة على المسيح حقا؟.

قال:

   - نعم

فقال له الإمام الباقلاني:

   - فلماذا لم يرها أحد منكم؟!.

كان هذا آخر مجلس يحضره فضيلة الإمام قبل رحيله إلى بلاده. وقد وعد الطاغية القاضي أبا بكر بالاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية لأجل غير مسمى. وبالفعل بعد مضي أشهر قليلة تحقق وعده بعد أن بعث برقية سلام إلى حاكم العراق يطلب فيها مقابلة فضيلة الشيخ أبا بكر الباقلاني، فسر لذلك الحاكم وانشرحت سرائره.

استعد يومها الإمام أيما استعداد، وأبحر مع الأسطول الملكي باتجاه أرض الروم، فانتهز ملك الروم هذه الفرصة الثمينة، ودارت بينه وبين الإمام عدة مناظرات قال عنها بعض المؤرخين "إن الله أظهر فيها دينه على الدين كله"، وكانت أشرس تلك المناظرات وآخرها عندما أراد الملك تكريم الإمام الباقلاني تقديرا لفصاحته ورجاحة لبه، فدعاه كما واعده في يوم هو من محافل النصرانية، وبولغ يومها في مظاهر الاحتفال.

الملك:

   - مرحبا بالإمام الفضيل قاضي المسلمين.

الإمام الباقلاني:

   - ها أنا جئتك مرة أخرى ملبيا دعوتك يا ملك الروم في يوم عيدكم.

الملك:

   - اليوم سأعرفك على ضيف فريد من نوعه، عظيم الشأن، كبير المقام .. أدخلوا علينا البطرك.

الملك:

   - حضرة الإمام الباقلاني، هذا هو رئيس رؤساء الأساقفة، البطرك الأكبر، قيم الديانة وولي النِّحْلَة.

الإمام الباقلاني:

   - مرحبا بالبطرك الأكبر. كيف حالكم، وحال الأهل والأولاد؟.

البطرك:

   - ماذا تقول يا هذا؟!.

الإمام الباقلاني:

   - وما الخطب فيما قلت؟!. سألتك عن حالك وحال الأهل والأولاد.

فامتقعت وجوه الحضور وتغيرت سحنتها، وقد كشر الملك عن أنيابه، فقال:

   - لا بد أنك جننت لا محالة، ألم تعلم بأن رهباننا لا يتزوجون ولا ينجبون الأطفال؟.

فقال أبو بكر الباقلاني:

   - الله أكبر، تنزهون رهبانكم عن الزواج والإنجاب، ومع ذلك تتهمون ربكم حاشاه بأنه تزوج مريم وأنجب سيدنا عيسى. أرهبانكم أطهر من الله العلي العظيم !!.

فجن جنون الملك، ثم قال:

   - هل كان نبيكم يغزو؟!.

قال أبو بكر:

   - أجل

قال الملك:

  - فهل كان يقاتل في المقدمة؟!.

قال أبو بكر:

   - صحيح

قال الملك:

   - فهل كان ينتصر؟!.

قال أبو بكر:

   - لا شك في ذلك

قال الملك:

   - فهل كان يُهزَم؟!.

قال أبو بكر:

   - نعم

قال الملك:

   - عجيب !. نبيٌّ ويُهزَم؟!.

فقال أبو بكر:

   - أإله ويُصلَب؟!.

فَبُهِتَ الذي كفر !!. وصعقوا من دهاء الرد ولم ينبسوا ببنت شفة، بل انكسروا وبانت عيوبهم على يد فضيلة الإمام الشيخ، ثم اتكأ الملك على كتف البطرك وهمس قائلا:

   - ما ترى في أمر هذا الشيطان؟.

قال البطرك:

   - تقضي حاجته، وتلاطف حاكمه، وتبعث بالهدايا إليه، وتُخرج بعجالة هذا العراقي من بلدك اليوم إن قدرت، وإلا فلا أضمن لك صلاح عقيدة النصرانية بعد اليوم.

ففعل الملك ذلك، وأثنى على جواب عضد الدولة، وبعث مع رسوله أفخم الهدايا وأرقاها على أمل أن يخطب وده ومحبته، وعجل بتسريح فضيلة الإمام الباقلاني، ومعه عدة من أسرى المسلمين، ووكل بالقاضي من جنده من يحفظه، حتى يصل إلى مأمنه ومسقط رأسه.


  المصادر:

- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي

- كتاب المناظرة العجيبة لمحمد بن عبد العزيز الخضيري



   نشر في 06 يونيو 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا