أدبيات الملاحم والأساطير في حضارة ما بين الرافدين - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أدبيات الملاحم والأساطير في حضارة ما بين الرافدين

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 26 يناير 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

أدبيات الملاحم والأساطير في حضارة ما بين الرافدين..

هيام فؤاد ضمرة..

لبلاد ما بين الرافدين (العراق حاليا) ميزة تاريخية فريدة ومتميزة، كونها عاصرت أقدم الحضارات المسجلة والمثبتة تاريخياً حتى هذا الوقت، والمتقدمة بإنجازاتها الحضارية وموروثها التاريخي، وقد تركت خلفها ما يمت إليها بآثار عظيمة ليس كمثلها آثار عبر هذا القدم، وقد تكون من أقدم الحضارات التي اهتمت بالأنواع الأدبية وبالملاحم الأدبية البابلية والأكدية على وجه الخصوص، كوسيلة دينية وتأريخية وأدبية في آن معاً، من خلال استخدام شعار الدولة أو شعار الإله أو ختم الحقبة السياسية الرسمي على تسجيلاتها المكتوبة، فيسهل الرجوع إلى تاريخها.

وتعتبر المكتبة الأثرية التاريخية القديمة للعراق من أكبر وأقدم المكتبات التاريخية التي تم العثور عليها في باطن الأرض، مسجلة على ألواح من الآجور الطيني، تمثل حضارة على درجة عالية من التحضر قياساً لقدمها الذي يعود إلى حوالي سبعة ألاف عام قبل الميلاد.

والختم أو الشعار عبارة عن اسطوانة محفور عليها الشعار لإله الشمس في وضعية جيدة وضمن مشهد جميل بتفاصيل بارزة، كانت تدحرج على زاوية لوح الآجور الطيني الذي يشتمل على كتاباتهم وسردهم، قبل شوي الألواح في أفران عالية الحرارة وتجفيفها، وقد تم العثور على آلاف الأختام الأسطوانية في باطن الأرض، كل منها تمثل تقاليد لأسطورة دينية هي جزء من تراث ومعتقد وأدبيات زمانها.

والجميل في هذا الموروث أنه نقل إلينا أدبيات شعرية وقصصية تلوح بها بوادر العبقرية آنذاك، ما يؤكد أن ذلك الزمان له خصوصية الازدهار والاستقرار لهذه الحضارة الغارقة في الأعماق البعيدة للتاريخ القديم في تلك المنطقة من وادي الرافدين، حيث يمثل هذا الموروث ثقافة إنسانية معبرة عن وعي ظاهر وخيال مطلق ومحلق، وتطور احترافي باذخ في الأدب القديم، حيث يتشكل النص باشتغالات التميز ووضوح التعبير، وإظهار للزوميات السرد، وفنيات التشويق.

وهكذا انداحت التدوينات السومرية بتسلسل وتدفق لتعكس حضارة سادت قبل آلاف السنين، مشيرة إلى ارتقاء الواقع الأدبي ونضوجه من خلال توفر عناصر السرد وبساطته، وطغيان وجود العقدة والحل والثيمة المحبوكة والمترابطة داخل البيئة الزمانية والمكانية، مع تصوير مشوق للصراعات المعقدة، وتوارد الأفكار وانسيابها بسلاسة واضحة، مما يؤكد وجود ارتقاء واضح داخل حضارة وادي الرافدين لتلك الحقبة المذهلة.

والواضح أن توصلهم للغة التواصل المكتوبة والمعبرة التي عرفت تاريخيا بالحروف المسمارية أتاحت لهم مجالاً متدفقاً للتسجيل والتوثيق خاصة مع سهولة الكتابة على الألواح الطينية وطرق الحفاظ عليها وتقويتها ضد العوامل الطبيعية المخربة.

وقد تم العثور على مئات الآلاف من هذه الألواح التي تعد نفائس ثمينة وفريدة تمثل أدبيات تلك المرحلة من أساطير دينية، وقصص، وحكم، وأدعية، وصلوات، وأناشيد دينية، وشعر، ورسائل شخصية، وتوثيقات لأحداث مهمة، وأحكام وقوانين، ووسائل علاج وطرق إدواء، ووصف طرق أسفارهم وتجارتهم، ووقائع عسكرية، وفضاء كون يعلو فوقهم، وعلوم زمانهم، وتصوير أحوالهم، وأزياءهم، ومنشآتهم، وبيان قدراتهم الفنية في البناء والنحت والتشكيل والرسم، كل هذا مما يعطي صورة وافية عن حضارتهم التي وصلوا إليها، وتركوا آثارهم تتحدث عنهم.

والأساطير هي حكايات يسودها الخيال وتخالطها الخرافة لابراز قوى الطبيعة في شكل كائنات لا وجود لها خارقة للعادة عظيمة القوي مهولة الضخامة تقاتلها الإلهة وتعاركها ضمن مشاهد أسطورية وفي الغالب الأعم تتغلب عليها وتعلن الانتصار، وتشيع مثل هذه الحكايات في التراث الشعبي لكثير من الأمم القديمة وصفها القرآن الكريم بآساطير الأولين، وهذا التوصيف ورد في تسعة مواضع من القرآن الكريم في سورة الأنعام، والأنفال، والنحل، والمؤمنون، والفرقان، والأحقاف، والمطففين، والقلم، والنمل.. وكلها أتت في صورة المحاججة بين النبي والكفار وتكذيبهم لآيات القرآن الكريم، فيما الملاحم تختلف قليلاً إذ تأتي بالصورة الشعرية

وأبدع أدبيات ما أورثوه لهذه الأجيال على الإطلاق (ملحمة جلجامش) السومرية والتي وصلتنا من القرن السابع قبل الميلاد وتم العثور عليها في نينوى أقدم وأعظم مدن الأرض، تقع في شمال العراق على الضفة اليمنى من نهر دجلة قريباً من الموصل، و(ملحمة الإينوما إيليش) ملحمة الخلق البابلية التي فك رموزها جورج سميث، ذلك العمل الأدبي الشامخ الباحث عن سر الخلود، وكان سر الخلود هوس البحث والمعرفة في ذلك الزمن البعيد، وقد تركز بحثهم في سبر أسرار الحياة للتغلب على الموت الذي شكل لهم هو الآخر سراً مرتبطاً بقوة إلهية عظمى.

والملحمة عبارة عن قصيدة ملحمية طويلة تسجل قصة بطل يخترق عالما متخيلاً تتجلى فيه القوة والحكمة والموعظة والبطولة للوصول إلى سر الخلود، وتستطيع في أسلوب سردها اختراق عقول وأذهان المتلقين فتحلق بهم في دنيا سارح من الخيال وتتحكم بهم من خلال ملكوت إله يأخذهم نحو الطاعة والخشوع.

والأساطير البابلية تعتبر أن أم الآلهة كلها هي مجرى الماء العظيم الذي يهبهم الحياة كلها، وقد اعتقدوا يقيناً أنّ الماء أساس الحياة من خلال خبراتهم العملية واستنتاجاتهم على أرض الواقع، كما أنّ الشمس أساس النور والدفء المكمل لأسباب الحياة حيث ما من قوة تشابهها عطاءاً وتأثيراً، والطمى يشكل لب الأرض من أصلها، ذلك السر العظيم الذي منه انبثقت الحياة، وعلى هذا أشاروا بولادة الإنسان من أصل مواد الدنيا الأساسية، ومنها كذلك ولدت الآلهة المعبودة كلها، فمن زواج الآلهة (كي) إله الأرض والآلهة (آن) إله السماء ينسكب المطر مدرارأ، ويسقي ظمأ التربة لتنبت كل حياة فيها لتأمين عيش الإنسان والمخلوقات لضمان استمرارية الحياة.

ويلاحظ أن أهل الديانات غير الإسلامية في بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً) كالأزيدية والصابئة في ذات المنطقة، تحمل في معتقدها نفس مبدأ القداسة للماء الجاري، وتمارس طقوسها ومعتقداتها وحتى العادات في طقوس الزواج والموت، بأن تمارس على ضفاف النهر حيث الماء الجاري، وتشترط هذا لسلامة الطقوس الدينية واستكمالها.

والثابت أنّ السومريين هم قوم عرب أقحاح من القبائل السامية بتأكيد غالبية العلماء- نسل سام ابن نوح عليه السلام حسبما جاء في سفر التكوين، ومن ثم استقاها الإنجليز على ما وردت في دائرة المعارف البريطانية، والثابت أنّ المؤرخين السريان هم أول من استخدم مصطلح السامية وكانوا بها السباقين - إنما بعض الدارسين يعتقدون أنهم ربما يكونون من الأقوام المستعربة، وربما تعود أصولهم إلى بلاد الهند أو بلاد فارس بسبب العثور على أختام سومرية في باطن أرض (موهنجودار) غرب الهند، كما تم العثور على آثار سومرية في جزيرة دلمون (البحرين حالياً) في الخليج العربي، وإن كان هذا ليس بدليل على مكان أصولهم، إذ من الممكن انتقال بعض الملامح الحضارية الشكلية من خلال الحملات العسكرية أو من خلال الحركات التجارية.. وبغض النظر عن موطنهم الأصلي فربما هم سكان المنطقة الأصليون ولم يأتوا إليها من أي مكان آخر، إذ تمكنوا من الارتقاء بحضارتهم وبمستوى معيشتهم إلى موقع متميز.

وفي عودة لأصل الموضوع إذ ما زال الواجب يتطلب منا أن نقول كلمة حق في أن حضارة ما بين الرافدين نقلت إلينا أقدم وأندر أساطير العهد القديم وأعمقها فلسفة، فصوروا الآلهه بصورة الأسرة البشرية التي تحب وتتزوج وتحمل في جوفها صغارها، وتنجب، وتتألم، وتنزعج، وتغضب، وتضجر، وتغار، وتحزن، وتمرح، وتتمنى، وتشترط لأمنياتها ومطالبها، وتستشير آلهة الحكمة وتستنجد بها، وتميل للحلول التي توائم مصالحها، وقد تضمر الشر أو قد تنتقم لنفسها، وقد ينقلب حال أمومتها من الحنان والعطف إلى القسوة والشر.. أي أنها من الممكن أن تمتلك ذات تناقضات الإنسان.

ولطالما ألهمت الأساطير الفنانين والشعراء والأدباء ومنحتهم أفكاراً خلاقة، وروائع مدهشة، وأساليب مجددة، لهذا فلا مجال لمجافاتها أو إدارة الوجه عنها دون أن تسبر فنياتها وتتأمل شفافيتها وظلالها الغامضة، وتناظر مضمار أدبها وما حظيت به في زمانها.

وفي واقع الحال أن الأسطورة أو الملحمة هي قدرة ذكية في مزاوجة الحقيقة بالخيال، بأسلوب أسطوري يتعدى حالة التصور إلى الخرافة الكاذبة، بالاعتماد على قدرة العقل في التخيل والتحليق في الغيبيات، لأنها في الأصل هي حكايات حقيقية تم كسوتها بغلاف أسطوري متخيل غير حقيقي في غالب الأحيان بما يتوافق وثقافة ذلك الزمن، ومدى ايمان أهله بعالم ما تحت الأرض وما فوق السماء من عالم الغيبيات وبما يتوافق مع الهدف المراد الوصول له، أو ما يراد استملاحه.

وما بين المتخيل المتوائم والواقع الحقيقي في عقل السارد للقصص المتراكبة كمثل ما يحدث على أرض الواقع، وذلك المتخيل الذي يجاوز حدود اللا معقول إلى الخرافة حيث يكمن سر الأسطورة وشكل ملامحها في العقل الواعي.. فقد نشأت الأسطورة كمتطلب طبيعي لتطور العقل الانساني الحتمي الباحث عن التشويق في واقع وثني غير محايد، يملك فعل التأثير على العقل البشري لاستخراج دهشته الكبرى.

على ما يبدو تعود جذور قصة الطوفان الأكبر إلى الحضارة السومرية والبابلية واكتشفت في (نيبور) على يد بعثة أمريمية في نهايا القرن التاسع عشر، وتعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وقد أحصى الباحث والمؤلف النمساوي هانز شيندلى بيلامي (1901-1982م) أكثر من 500 أسطورة عن الطوفان في جميع أنحاء العالم تنوعت بين الدينية والأسطورة التاريخية والتراث الشعبي المتداول، وتتكررت تقريباً في المعتقدات الدينية للأديان الإبراهيمية وفي تلك الحضارات الغارقة في عمق التاريخ، تقريبا في كل حضارات قارات العالم أسيا وأوروبا وأمريكا وإفريقيا، فبطل الطوفان السومري على سبيل المثال (أترا هسس- بمعنى المتناهي بالحكمة) هو (أوتنا- بشتم) ابتنى سفينة الإنقاذ الضخمة بطلب من الآلهة (أنكي) لإنقاذ الخلق من الطوفان الذي تسببت به الآلهة بسبب الإنفجار السكاني لتطهير الأرض من البشر، فأحدثت الطاعون ومن ثم المجاعة وألحقتها بالطوفان، والراوية لا تختلف كثيرا عن روايات الديانات الابراهيمية، ولا حتى عن الأسطورة الأشورية، والأسطورة المصرية، والأسطورة الفارسية، والأسطورة الهندية والأسطورة الإفريقية، حتى شعب الأسكيمو يمتلكون روايتهم عن الطوفان، والفوارق بسيطة للغاية.


  • 1

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 26 يناير 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا