حوار بين زوجين رضي الله عنهما _ وقفاتٌ وفوائدُ وعوائدُ _ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حوار بين زوجين رضي الله عنهما _ وقفاتٌ وفوائدُ وعوائدُ _

  نشر في 30 غشت 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فهذه وقفات وتأملات في حوار سلفي، حصل في بيت مبارَك من بيوت السلف الصالح رضي الله عنهم، في بيت أحد العشرة المبشرين بالجنة وهو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وزوجته سعدى رضي الله عنها، لنستخلصَ منه العبر، ونستخرجَ من أصدافه الدُّرر، ونقطفَ من روضه الثمر، مع شيء من التعليق المختصَر، عند الحاجة واقتضاء النظر، خصوصا فيما ينبغي أن يكون عليه الزوج والزوجة فيما بينهما من التعامل والعشرة على مَرِّ الدهر.

[ ﻋﻦ ﻃﻠﺤﺔ ﺑﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﻋﻦ ﺟﺪﺗﻪ ﺳُﻌﺪَﻯ رضي الله عنها ﻗﺎﻟﺖ: ﺩﺧﻠﺖُ ﻳﻮﻣﺎ على ﻃﻠﺤﺔ ﺗﻌﻨﻲ اﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ اﻟﻠﻪ، ﻓﺮﺃﻳﺖُ ﻣﻨﻪ ﺛِﻘﻼ، ﻓﻘﻠﺖُ ﻟﻪ: ﻣﺎ ﻟﻚ؟ ﻟﻌﻠﻪ ﺭَاﺑَﻚَ ﻣﻨﺎ ﺷﻲء ﻓﻨَﻌْﺘِﺒُﻚ؟ ﻗﺎﻝ: ﻻ؛ ﻭﻟَﻨِﻌْﻢَ ﺣﻠﻴﻠﺔُ اﻟﻤﺮءِ اﻟﻤﺴﻠﻢ ﺃﻧﺖ، ﻭﻟﻜﻦ اﺟﺘﻤﻊ ﻋﻨﺪﻱ ﻣﺎﻝ؛ ﻭﻻ ﺃﺩﺭﻱ ﻛﻴﻒ ﺃﺻﻨﻊ ﺑﻪ ؟ ﻗﺎﻟﺖ: ﻭﻣﺎ ﻳُﻐُﻤُّﻚ ﻣﻨﻪ؟! اﺩﻉُ ﻗﻮﻣَﻚ ﻓﺎﻗﺴﻤﻪ ﺑﻴﻨﻬﻢ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﻏﻼﻡ؛ ﻋﻠﻲَّ ﺑﻘﻮﻣﻲ، ﻓﺴﺄﻟﺖُ اﻟﺨﺎﺯﻥ ﻛﻢ ﻗﺴَﻢ؟ ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ.]

ﺭﻭاﻩ اﻟﻄﺒﺮاﻧﻲ ﺑﺈﺳﻨﺎﺩ ﺣﺴﻦ، وهو في صحيح الترغيب (926).

في هذا الحوار الجميل فوائد منها:

1_ قُرب الزوجة من زوجها حسًّا ومعنى، فمشاعرها وعاطفتها المرهفة أشعرتها بأن في نفس زوجها شيئا من الهم أو الغم، ولولا قربها الحسي منه لما لاحظت ذلك التغير، فعادة الزوجة الكريمة أن تستقبل زوجها إذا دخل وتؤنسه بكلام.. وتبقى قريبة منه لعله يطلب غرضا من وَضوء؛ أو لباس؛ أو طعام؛ أو شراب؛... فتقربه إليه، أو تَعرِضَ عليه خدمة _ بلطف _ إن كان يريد شيئا ما، أحضرتْه له.

2 _ فيه أن الرجل غالبا إذا أهمّه أمر؛ أو أصابه حزن من أي شيء، يفضِّل الابتعاد ويميل إلى الصمت وقلة الحديث، وعليه لابد للزوجة مراعاة ذلك وتفهُّمُه، حيث لا تُنكر عليه تغيُّرَه، أو صمته، ولتعلم أنها حالة عارضة ثم تزول، ولها الاقتراب منه بهدوء محادثته شيئا فشيئا؛ إن أخبرها فذاك؛ وإلا لم تُلِحَّ عليه في الكلام معها.

_ وهذا السلوك من الرجل، هو عكس سلوك المرأة تماما، فإن مِن طبيعة المرأة أنها تحب الاهتمام في الوضع العادي، فإذا أصابها أي شيء مهما صغُر، فإنها تحب أن يتعاطف معها كل من حولها، وأن يسليَها كل من رآها منهم، ويشاركها حزنها، وتحب أن تفضفض لقريب ثقة محبوب زوجا كان أو صديقة، وتحدثه بما حصل، وبما تشعر به في تلك اللحظة، وهي تنفِّس عن نفسها وتطرح جرعة كبيرة من الحزن بتلك الفضفضة.

_ وهنا من الخطأ أن يبتعد الزوج عنها، أو لا يُعيرُها اهتماما إذا شكَت إليه مشكلة، ولو صغُرت، ولو كانت إصابة صغيرة طفيفة على إصبع، عليه أن يقترب منها، ويقول لها أريني الموضع وينظر فيه بنفسه، وإن احتاج إلى فركٍ لطيف أو دلكٍ خفيف فعل ذلك؛ كأنه يسعفها أو يعالجها، ويدعو لها دعوات طيبات بالتعافي والحفظ..

نعم أنت ترى أن الإصابة ليست بشيء، لكن الزوجة بعد تصرف الزوج بهذا الاهتمام ترجع إلى المطبخ بنفسٍ وبوجه غير الذي خرجت به، ولو أن الزوج لم يبال بها وقال هذا شيء عادي، وأنت كبرت القضية... لأحزنها ذلك..

المواساة كلمات لا تكلفك شيئا وتريح قلب زوجتك وتشرح نفسها وتطيب بها .. فلا تكن بخيلا ولا قاسيا ولا جافّا...

3_ قولها رضي الله عنها: ( لعله رابك منا شيء) : صفة عظيمة من صفات الزوجة الصالحة، وهي أنها إذا رأت تغيرا في زوجها، أن تتهم نفسها، ولو كانت لا تذكر من نفسها تقصيرا، أو خطأ مقصودا أو غير مقصود.

4_ (فنَعْتِبُك): أي أطلب منك العتبى والعفو والمسامحة على ما بدا مني إن حصل شيء، وهذا مصداق وصف النبي صلى الله عليه وسلم للزوجة الصالحة التي هي من نساء الجنة، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ﺃﻻ ﺃﺧﺒﺮﻛﻢ ﺑﻨﺴﺎﺋﻜﻢ ﻓﻲ اﻟﺠﻨﺔ؟ ﻗﻠﻨﺎ: ﺑﻠﻰ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: كل وَدود وَﻟﻮﺩ، ﺇﺫا ﻏﻀﺒﺖْ؛ ﺃﻭ ﺃﺳﻲء ﺇﻟﻴﻬﺎ؛ ﺃﻭ ﻏﻀﺐ ﺯﻭﺟُﻬﺎ؛ ﻗﺎﻟﺖ: ﻫﺬﻩ ﻳﺪﻱ ﻓﻲ ﻳﺪﻙ ﻻ ﺃﻛﺘﺤﻞ ﺑﻐُﻤْﺾٍ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﺿﻰ) أخرجه الطبراني وفي صحيح الترغيب (1941)

وفي لفظ ( اﻟﻮﺩﻭﺩ؛ اﻟﻮﻟﻮﺩ؛ اﻟﻌَﺌﻮﺩ؛ اﻟﺘﻲ ﺇﺫا ﻇُﻠِﻤﺖْ ﻗﺎﻟﺖ: ﻫﺬﻩ ﻳﺪﻱ ﻓﻲ ﻳﺪﻙ ﻻ ﺃﺫﻭﻕ ﻏﻤﻀﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﺿﻰ) الدارقطني في الأفراد وهو في صحيح الجامع( 2604).

وعند النسائي في الكبرى بلفظ: ( العؤود على زوجها، التي إذا آذت أو أُوذِيَتْ، جاءت حتى تأخذ بيد زوجها، ثم تقول والله لا أذوق غمضا حتى ترضى)

** فتأمل رعاك الله صفة الزوجة الصالحة التي تكون من أهل الجنة

_ ودود: كثيرة التحبب إلى زوجها، حسنة التبعل له. من الود والوداد، والمودة، وهي ما أقامت عليه الآية العلاقة بين الزوجين ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) واللام في "لتسكنوا" لام غاية، وليست للعاقبة، فإن الغاية من الزواج السكن والسكينة، فكثيرا ما تحصل وتتحقق وقد تتخلّف، فالزواج لأجل أن يسكن أحدهما إلى الآخر، وأساس العلاقة المودة والرحمة.

_ وَلُود: كثيرة الإنجاب، بما لا يضرها، أو يفوت عليها مصلحة التربية والعناية وضابطه معروف في محله.

_ العَئُود: و المعنى كما في تتمة الحديث والرواية الأخرى: (العئود على زوجها): أي كثيرة الرجوع إليه معتذرة مستعتِبة تطلب منه العفو والمسامحة، فهي المبادرة إلى إصلاح العلاقة إن اعتراها فتور، أو عكّرها سوء تفاهم.

_ إذا غضبتْ: من شيء فعله زوجها قولا أو فعلا..

_ أو أسيء إليها: فيكون الزوج هو المسيء، وهي المظلومة كما في الرواية الأخرى: (ظُلِمَتْ): يظلمها زوجها بالتقصير في حق من حقوقها المالية كالنفقة الواجبة والمستحبة والمباحة (من ترويح على النفس والقلب كل على حسَب حاله).. أو الحقوق المعنوية من المحبة والعطف والحنان والزيادة في الإكرام...

_ في رواية النسائي ( آذَتْ أو أوذِيِتْ): إذا آذت هي زوجها فاعتذارُها ظاهر سببُه، إذ المسيء والمخطئ والمؤذي غيرَه مطلوبٌ منه الاعتذار،

وإنما الشأن فيمن أوذيت وظُلِمتْ فجاءت معتذرة كما في الحديث، وهي منزلة عظيمة عالية تزاحم النجوم في عليائها نقاوة وطهرا وسلامة صدر، ولا غَرْوَ فإن هذه صفة امرأةٍ من أهل الجنة كما في أول الحديث.

_ قالت هذه يدي في يدك: وفي لفظ (ناصيتي بيدك): تضع يديها في يدي زوجها وتقول: هذه يدي في يدك، فأنا في يدك، وتحت تصرفك، وطوْعُ أمرِك، وذمتي مشغولة بحقك علي، ورضاك عني..

_ لا أكتحل بغُمْض حتى ترضى: وفي لفظ: (لا أذوق غمضا حتى ترضى): تأمل كيف أنها مع تقصير زوجها في حقها إلا أنها تعتذر بألوان من الاعتذارات اللطيفة، بل قلبها مشغول بإصلاح حالها مع زوجها، فهي لا تكتحل بنوم ولا تستطيع أن تنام ولا يأتيها نوم ولا يطيب لها نوم البتة حتى تعلم أن زوجها قد رضي، بخلاف من تهجر زوجها في بيته أو فراشه، أو تذهب إلى بيت أبيها..وتوسّع الخرق وتفشي سر البيت، وتدخِل في الخلاف من لا يعنيهم ما حصل بينها وبين زوجها من أبيها وأمها وإخوانها _ ولا ينبغي لهم أن يدخلوا في أمر كهذا إلا بطلب من الزوج _ فيزيدون الطين بِلّة، والزمانةَ عِلة، ويتسع الخرق على الراقع، ويعسر الإصلاح بعد ذلك.

5 _ قال زوجها طلحة رضي الله عنه: (لا، ): أي ليس الأمر كذلك، لستِ أنتِ سببَ همّي، وانظر إلى هدوئه وأدبه الجمّ؛ رغم ما هو فيه مِن همّ، وكان هذا الجواب كافيا لو اقتصر عليه في الرد، وقد بيّن المراد؛ وحصل به المقصود في سؤال زوجته رضي الله عنها،

ولكن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه كان نِعْم الزوج العطوف الكريم هو، فقد زادها ثناء عليها، وأردفه إشادة بها،

6_ قال طلحة رضي الله عنه: (ﻭﻟﻨﻌﻢ ﺣﻠﻴﻠﺔ اﻟﻤﺮء اﻟﻤﺴﻠﻢ): وهذا فيه فوائد:

أ _ منها أن هذا الثناء منه أبلغ في حسْم شك زوجته، حتى لا يبقى في نفسها شيء، خاصة وقد أهمها تغير زوجها واهتمت هي لأجله

ب _ وفيه أسوة لنا جميعا بطلحة رضي الله عنه _ في الثناء على الزوجة، وإسماعها كلمات الشكر والدعوات الطيبة المباركة وإخبارها بإعجابه بها، وبخدمتها إياه، وبقيامها بشؤونه وحقوقه..

أيها الزوج المبارَك أخرجْ كلَّ ما عندك من كلمات الشكر والدعاء والثناء والإطراء، ولا تكتم شيئا من ذلك، فإن الكلمة الطيبة الواحدة، لك صدقة، وتزيد في انسجامِكُما وألفَتِكما، وينفتح لها قلب زوجتك، وتسعدها أياما عديدة، وتبقى نغمة تلك الكلمة ترنّ في أذنها إذا كانت لوحدها.. تتذكرُها وتبتسم من تلقاء نفسها، وأنت بهذا الصنيع من الثناء والدعاء لزوجتك قد ضيّقتَ بل سددتَ على الشيطان طريقه في التحريش بينكما، لأننا لو عكسنا الكلام، وخرجتْ منك كلمة جَرحتَ بها زوجتك، فإنك عندما تخرج لشغلك، وتبقى بمفردها تتردد تلك الكلمة الجارحة في أذنها وتبقى تتجرع مرارتها، وتحزن لها، وربما خنقتْها العبرة، ودمعتْ عينُها، وأضعفَها الحزن، والحزن مدخل من مداخل الشيطان، فربما غلبها ووسوس لها بسوء تجاهك، وربما أضمرتْ عصيانا أو نشوزا أو زَوَّرَتْ في نفسِها كلاما مِن وحي إبليس، إذا رجعتَ إلى البيت واجهتْك به، وينفخ فيك الشيطان أنت أيضا فقد تضربها، وقد تعتدي.. وقد... وقد..وقد تطلقها !!، وهذا ما يريده الشيطان ويتمناه ويسعى إليه.

7 _ وقول طلحة رضي الله عنه: (ولنِعْم حليلة المرء المسلم أنتِ): مصارحةٌ لزوجته بثناء عام من كل وجه، ثناء جميل مُجمَل، ولا بأس بالثناء المفصل أيضا، كأن يشكرها ويدعوَ لها على كل عمل وخدمة جزاك الله خيرا.. بارك الله فيك.. سلمت يداك.. حفظك الله.. رفع الله قدرك.. رحم الله من رباك.. مع عبارات المحبة الوداد.. علاوة على ما فيها من الأنس، هي دعوات مباركة عسى أن تصيبَ نفحاتُها زوجتَك فتنعَم وتسعَد

8 _ في ثناء طلحة رضي الله عنه عمومٌ ليس فيه استثناء، فلم يقل لها: ولنعم حليلة المرء المسلم أنتِ لو لم يكن فيك خلق كذا .. أو لو لم تفعلي ذاك اليوم كذا .. أو لولا أنك لا تسمعين كلامي، أو لولا تقصيرك في كذا ... أو لولا أنك لا تحسنين كذا...

لم يقل شيئا من ذلك، مع أن المرأة لم تخلُ من تقصير قَطّ، ولا تخلو من تقصيرأبدا، لا يمكن أبدا أن تخلوَ المرأة مِن نقص، هي بشر تخطئ كما يخطئ غيرها من الناس، ثم مع طول الملازمة للزوج.. ومعالجة أمره.. والقيام بشؤونه الكثيرة.. وفي كل يوم.. صباح مساء وبين ذلك.. ولسنوات طويلة.. يبعد جدا أن تقوم بحقه في ذلك كله بلا خطأ واحد ولو عرَضا، بلا قصد، سهوا، أو نسيانا، أو غفلة،.. طاقتها محدودة وضعفها فطري، والخطأ وارد، بل لابد منه، ولا انفكاك عنه.

** فالزوج الموفق هو الذي يعرف ذلك لزوجته ولا يثرِّبُ عليها، ولا يذكِّرها بخطئها كالموبِّخ لها، بل موبِّخا لها !!،إذ ما فائدة التذكير بخطأ مضى تاب منه صاحبه وأصلح غيرُ التوبيخ !!؟

9 _ ثناء طلحة رضي الله عنه على زوحته سعدى رضي الله عنها بعموم دون تفصيل هو قبسٌ مِن مشكاة النبوة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفرَك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر ) مسلم. فلا تلتفت إلى الجزئيات، وانظر إلى عموم الخير في زوجتك وملاءمتها لك واعتبر مجموع حالها تجده صالحا في أغلبه..

10 _ قال طلحة رضي الله عنه مضيفا ومبينا سببَ غمّه: (ولكن اجتمع..)

(ولكن): انتقال منه رضي الله عنه من كلام إلى كلام بكل أدب؛ ولطف؛ وليونة؛ ويسر؛ ورفق؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أرادَ اللهُ بأهلِ بيْتٍ خيرًا أدخلَ عليهِمُ الرِّفْقَ) صحيح الجامع [303]

وقال ﷺ : ( ألا أخبركم بمن يحرم على النَّار، وبمن تحرم النَّار عليه؟ وفي لفظ: ( حُرِّمَ على النار كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ ، سهلٍ، قرِيب من الناس) رواه الترمذي (2412)، وهو في صحيح الجامع (3135)

وطلحة رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة فلا غرو أن كان كذلك.

11 _ تأمل كيف أنزل طلحة رضي الله عنه زوجتَه منزلة الاحترام والتقدير لها ولرأيها؛ فأخبَرَها بما الذي شغل قلبه، بل وزاد على ذلك شيئا أكبر سيأتي بيانه،

فلم يقل لها كما يقول البعض منا ظنًّا منه أنها من تمام الرجولة : لا دخل لك فيما يشغلني، أو لا دخل لك فيما أفعل أو أترك، أو الموضوعُ راجع إلي وأنا أقرر فيه بما أرى، اذهبي لحالك وشغلك... كثير من الأزواج يقول هذا ومثله وأشد !! للأسف، وتنصرف الزوجة مكسورة، وهل يشعر هو بانكسار خاطرها ؟، لا يخطر في باله أنه كسَرَ خاطرَها أصلا... وربما يكون صادقا، فقد تعودتْ هي على كسر خاطرها في مثل هذه المواقف وغيرها.. فإنا لله مِن جفاء كهذا ...

ثم تأمل بعد أن أخبرها الخبر

12 _ ( ولا أدري كيف أصنع به؟ ): كالمشاور لها، بل هو يشاورها كيف يتصرف في المال، ويدل على أنها فهمت منه أنه يستشيرها كونها أشارتْ عليه كما سيأتي.

13 _ أيها الأزواج _ ولا أعني الجميع _ : اعلموا يقينا أن مشورة الزوجة هي مِن حصافة عقولكم، وكمال رجولتكم، وتمام رأيكم، وتواضعٌ منكم وأي تواضع، ورعاية لكرامة الزوجة، واعتبار لعقلها واستعمال له،

أيها الأزواج_ حفظكم الله ووفقكم لكل خير _ مشاورة الزوجة الصالحة لا يُنقِص من الرجولة، ولا يخدش في شخص الزوج، ولا يغُضُّ من مكانته وقدْره، ولا يَشِينُه، ولا غضاضة فيه على الزوج البتة، يشاورُها فإن أشارتْ بشيء نافع مناسب ملائم، متفق مع القضية؛ فنِعْمَ الرأي السديد هو منها ونِعْمتِ المشورة، وإن لم يكن كذلك فلا يضرك، بل ينفعك؛ وينفعها؛ ينفعك في مراعاتك لها، ويشعرها بمكانتها في قلبك، واهتمامك بها في نفسك؛ فيزيدكما ذلك ألفة وانسجاما، ويزيد كلَّ واحد منكما وُدًّا لصاحبه.

** وها قد شاور سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم زوجته أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية وهو من هو بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه، فأشارت عليه بما تعرفون من القصة الطويلة،فقام صلى الله عليه وسلم ( ... نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا ، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا..) البخاري ومسلم.

ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها: وما يكون رأيك أنت أمام رأي نبي مكلَّم يوحى إليه؟؟ ولم يقل لها إنه مستغنٍ عن مشورتها؛ وما يصنع بمشورتها وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي من السماء ؟؟ ولا قال كما يقول البعض منا: لها اسكتي يا ناقصة عقل ودين؛ ومنذ متى نستشير نحن _ معاشرَ الرجال !! _ ناقصاتِ العقل والدين ؟!!

وهذا _ وَايْمُ اللهِ _ لهو الظلم والجهل، ظلم ببخس المرأة حقها سببه الجهل بمعاني النصوص، فإن الحديث الذي ورد فيه ذكر نقص العقل والدين يفسِّرُه آخرُه بما لا تحتاج معه إلى شرح، لمن أتم الحديث كله ولم يقتصر منه على ما يريد، حيث بيّن أنّ نقصان العقل في الشهادة لكونها ذات عاطفة، وقد تنسى كثيرا لغلبة تلك العاطفة التي تناسب حالها ودورها المناط بها، فتُجبَرُ شهادتُها بشهادة أختها ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ومن معاني الضلال الخطأ والنسيان، ونقصان دينها بتركها _ وجوبا _ الصلاةَ بلا قضاء، والصومَ؛ وتقضيه بعد زوال العذر....

وبعد هذين الأمرينِ ومع هذين الأمرين..فيا لله كم من امرأة أكمل من ألف رجل !!

** ومن إشارات النساء ونصائحهن المباركة لأزواجهن _ التي قامت بسببها دولة موحِّدة، سنية موحَّدة مترامية الأطراف _ نصيحة الأميرة موضي بنت سلطان بن وطبان الكثيري رحمها الله لزوجها.

ولذلك قصة..وفيها أنه لمّا خرج الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من العُيَيْنة، توجه إلى الدرعية، فدخلها، ولم يسمع به حاكمها الإمام محمد بن سعود رحمه الله، ونزل عند عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم، كلم الشيخُ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعض الأهالي من الدرعية، فهمّوا أن يكلموا الإمام محمد بن سعود رحمه الله لنصرة الشيخ، ثم ترددوا في ذلك، ثم رأوا أن يكلموا زوجته الأميرة موضي بنت سلطان؛ فكلموها، وشرحوا لها دعوة الإمام المجدد رحمه الله وما يأمر به من التوحيد والسنة، وما ينهى عنه من الشرك والبدعة، فشرح الله صدرها لدعوة التوحيد، وكانت امرأة عاقلة ذات دين ولها خبرة وبصَرٌ بالأمور،.. فلمّا دخل الإمام محمد بن سعود رحمه الله على زوجته؛ أخبرتْه بمكان الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله؛ وقالت له: ( إنَّ هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة؛ فاغتنم ما خصّك الله به؛ فقبِل الإمام محمد بن سعود رحمه الله قولَها)

وحصل على إثر ذلك اتفاق الدرعية سنة 1157

ومنذ ذلك الحين اقترنت دعوة التوحيد، بدولة التوحيد، وقامت الدولة السعودية الأولى على هذا الأساس، ثم الدولة السعودية الثانية ثم الدولة السعودية الثالثة واستمرت إلى اليوم كلها على نفس النهج والعقيدة، كانت بدايتها كلمة ومشورة ونصيحة من امرأة حصيفة ذات عقل !!.

14 _ قال طلحة رضي الله عنه ( اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به):

ما أعظمَ فقه السلف رحمهم الله !، وما أهون الدنيا في قلوبهم !، وما أحقرها في أعينهم!، وما أعظم الآخرة في نفوسهم وقلوبهم!، يغْتمُّون وتتغير نفوسهم لأجل مالٍ حصل لهم، ويبقوَن في همٍّ من ذلك المال مادام عندهم، حتى يقولوا به هكذا وهكذا في سبيل الله؛ وفي وجوه الخير؛ وأبواب البر، وهذا _ واللهِ _ الفقهُ والنظرُ، مع ما كانوا فيه من القلة والشدة وشظف العيش _ في الغالب _ لا يفرحون بكثرة المال.

** الكثير من أبناء الزمان ينعكس معه الأمر، فإنه يغتمُّ إذا قلَّ ما في يده، بل ما في قلبه!!، لأن الذي يغتمُّ إذا قلَّ المالُ هذا غالبا قد جعل المال والدنيا في قلبه، لذلك يتأثر قلبُه غمًّا، أوفرحا، بإقبال الدنيا، أوإدبارها، والله المستعان.

السلف رضوان الله عليهم كانوا يغتمون إذا زادت الأموال في أيديهم، لأنها لم تدخل قلوبهم، ولأنهم يعلمون حق الله فيها، وحق عباد الله أيضا.

(قالت: وما يغمّك منه، ادع قومك فاقسمه بينهم): 

وتحت هذه المشورة المختصرة فوائد جمة:

15_ منها أنَّ سُعدى رضي الله عنها هوّنتْ على زوجها ما يجد ( ما يغمك منه ؟!) تقول إن الأمر أهون من ذلك الغم وأسهل والأمر أقرب.. 

فأنت أيتها الزوجة المباركة المسددة إذا رأيتِ زوجك في همّ أو حزن، أو شدة خففي عنه بكلمات رقيقة لطيفة، وذكريه بالله تعالى وفضله ورحمته، وأشعريه بالتفاؤل واذكري له حسن الظن بالله وما فيه من خير وأن الأمور قريبة، وإلى انفراج بإذن الله وأن مع العسر يسرا...

16_ ( ادع قومك فاقسمه بينهم): فيا لله الفقه ورجاحة العقل ! فقد أشارت عليه بأنفع إشارة، في أوجز عبارة، وأعظمها أجرا وأبقاها ذخرا، بأن يقسم المال بين قرابته، فهي له أجر مضاعف؛ صدقةٌ وصلةٌ.

ولم تقل له كما تقول الكثير من النساء الصالحات ! _ اليوم _ الحمد لله وما يغمك منه؟! رزقٌ ساقه الله إلينا؛ دعنا ندّخره لنوائب الدهر، وبعضهن تقول: الحمد لله غدا نذهب إلى محل كذا نشتري منه كذا وكذا.. ونسافر إلى بلد كذا...ولمَ لا نغيّر هذه السيارة ونشتري أخرى أجمل منها ؟؟ ...كذلك نغيّر أثاثَ البيت بأثاث آخر ذي لون مختلف، فإن هذا اللون ذهبت موضته !! وخرجت موضة جديدة !!.... في نفقات أخرى كمالية ليست فيها مصلحة ولا لها نفع إلا نزر يسير ...

وربما لو رأتْ بعضُ نسائنا زوجَها يتصدق، أو يهب، أو حتى يقرض شخصا، لأنكرتْ عليه، وذكّرتْه بأنه ينقصهم كذا وكذا من متاع البيت، وأنت تتصدق على هذا، وتهب ذاك، وتُقرِض الآخرَ ؟؟؟ تتركنا بلا مال !!؟ تتركنا في فقر ....!؟ اليوم المعيشة صعبة، وكل شيء أصبح غالي الثمن.... ومِن مثل هذا اللوم والعذل أنواع وألوان... والله المستعان.

** نساءُ السلف كُنَّ كأزواجهن؛ قلوبهن معلَّقة بالآخرة، يُمَحِّضْنَ النصح للأزواج؛ ويُشِرْنَ عليهم بِخيرِ ما يعلمْنَ لهم، ويَحُضُّنَّ أزواجهن على الخير، ويُعينُنَّهم عليه إذا أقدموا وشرعوا فيه، بخلاف كثير من بنات الزمان والله المستعان.

17_ قول سعدى رضي الله عنها:( اقسمه): أي كلَّه، ولم تقل له أعطهم بعضه، واستبق لنا منه شيئا، ففيه تمام الزهد في الدنيا، وعظيم التوكل على الله، وصدق الاعتماد عليه سبحانه، واليقين بالأجر، والعوض منه جل جلاله وعز سلطانه.

18_ لم يستدرك طلحة رضي الله عنه على زوجته في إشارتها بقسمة جميع المال بين قرابته، ولم يكن له نظر غيرُ نظرها، وفيه تعاون الزوجين على الخير، وتأثر كل واحد منهما بالآخر، وهذا واقع مشاهد، فإن الزوج يختار زوجة تماثله دينا ومنهجا وخلقا وسلوكا، وهي كذلك توافق على زوج يماثلها دينا ومنهجا وخلقا وسلوكا، فيأخذ منها وتأخذ منه العوائد والطباع، فما يلبثان مع بعضهما برهة من الزمان حتى يتقاربا مُيولا، ويتشابَها رغبةً، ويتّحِدَا هدفًا، ويتجانسا رأيًا، ويتطابَقًا فكرةً، حتى لا يكاد يكون بينهما اختلاف.

19_ (فقال _ طلحة رضي الله عنه _ : يا غلام ! عليَّ بقومي): بعدما أنهت زوجته سعدى رضي الله عنها كلامها نادى طلحة رضي الله عنه غلامه فقال:....، معطوف بالفاء التي تفيد العطف بترتيب وتعقيب بلا تراخٍ، "فقال يا غلام"، وهذا من عظيم يقينه برحمة ربه وفضله، ومن عمق فقهه، حيث استحسن نصيحة زوجته ورَضيَها، وسارع في تنفيذها، ولم يَخْشَ من ذهاب هذا المال، بل ما أغمَّه إلا بقاء المال محبوسا عنده، فمَا تلكَّأ ولا تردّد في قراره بقسمة المال بين أهله على ما أشارت به زوجته الموفقة سعدى رضي الله عنها.

20_ (فدعا قومه فقسمه بينهم كله، ﻓﺴﺄﻟﺖُ اﻟﺨﺎﺯﻥ ﻛﻢ ﻗﺴَﻢ؟ ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ.) :

كان المال المقسوم كثيرا _ أربعمئة ألف _ يؤكد ما تقدم أن القوم رضي الله عنهم كانت الدنيا في أيدهم؛ لذلك سهُل عليهم فراقُها والخروج منها، بل لأنها لم تكن في قلوبهم شقَّ عليهم بقاؤها عندهم، وهذا غاية الزهد مع كمال الصيانة، والفقه والديانة، أن تكون ذا مال كثير لكنك تجعله في يدك، ولا تزاحم به ما في قلبك من حقائق الإيمان، وحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، والدار الآخرة، فإن حب المال إذا دخل القلب أفسده وأوشك أن ينفرط عليه أمره..

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، لا إله غيره، ولا رب سواه.

_ وعلّقَ هذه الفوائد من يرجو رحمة ربه ومغفرته وستره.

/سَحَرَ ليلةِ الأحدِ لإحدى عشْرةَ ليلة خلتْ مِن شهر الله المحرم عام اثنين وأربعين وأربعمئة وألف.



   نشر في 30 غشت 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا