مع بداية كل صباح نكون قد عُدنا من جديد من رحلة ليلية أخرى تضاف إلى ليالينا العاصفة تارة والهادئة تارة أخرى. نكون قد عشنا حياة أخرى في منام قِصَرُه من قِصَرِ عمرنا، نتمنى ونحن نستيقظ منه لو أننا دمنا فيه إلى الأبد. لكن الصباح في كل مرة يحبط محاولاتنا الساذجة للهروب من الواقع، بطريقته الخاصة. طيب وماذا عن أولئك الذين لا يحلمون؟ هل فَرُغَت روحهم لهذه الدرجة أم أنهم استوفوا رصيدهم من الأحلام؟ أم أن هذه الأخيرة أصبحت هي الأخرى تنتقي على هواها وتختار على أي نَفْسٍ تحط رحالها؟
الصباح اليوم مختلف، فقد عَقَدَت الأماني العزم على التحقق. ستدق بابكم قريبا فاستعدوا لقدومها. البسوا أبهى الملابس وتزينوا بأجمل الحلل وكونوا على أهبةٍ فلا تدرون أي ساعة ستأتي. الأهم أن تجدكم مبتسمين. ستعلم أنكم لم تيأسوا...فالأماني لا تحب اليائسين. اليوم سيتغير كل شيء، سترون أن كل ما شَكَّل حدثا عظيما في السابق أضحى ثانويا، وأن كل ما بدأ كبيرا ينتهي صغيرا مع الوقت...إلا الأحلام، ستظل كبيرة.
ذلك أنه كلما ازداد نضج المرء تغيرت نظرته للأمور وازدادت قناعته بأن ما كان في السابق مهما غدا تافها، وبأن السعادة لا تقاس ببيت وسيارة ولا بعدد المتابعين على الفيسبوك والانستغرام بل بمن ظلوا معك بعد غربلة المواقف. وبأن التجارب تصنع رجالا ونساء مهما اشتد عودهم لا يبطشون بل يواسون بعضهم ويمدون أيديهم للخير. وبأنه مهما تعددت الليالي الماطرة فلا محال من ظهور الشمس. فاجعلوها تظهر في أفئدتكم. صاحبوا الشمس كما تصاحبها السماء في أيام الربيع، فعشق الغيوم يوهن القلوب.
وإلى كل من وقع في فخ المثالية، اعلم أن كبرى الهموم ستزول وحتى الأفراح مؤقتة. الحقيقة الثابتة الوحيدة هي التقلب والتغير. فالدنيا متقلبة، والمشاعر متغيرة، والأحوال متناوبة...لا أحد منا يدري أيهما سيسبق على أَجِنْدَةِ الحياة، الأفراح أم الأحزان. ولا كيف ستتركنا الأحداث المارة في مترو الزمان، المصطفة على رصيف أحلامنا. ربما نخرج منها خاسرين وربما نخرج فائزين، منتصرين أو مستسلمين. لكن يبقى السؤال: على من ننتصر وضد من نكون قد خضنا كل تلك المعارك؟ وهل كان من اللازم أن نعتبرها حربا منذ البداية؟ وهل من الضروري أن نركب قطارا لم نختره ولا نعرف وجهته حتى! فقط لأن الآخرين فعلوا كذلك؟ وهل من ظلوا واقفين في المحطة سعداءُ فعلا باختيارهم الجلوس على مقاعد الانتظار حتى تمل منهم المقاعد؟ لا أحد يملك جوابا شافيا ولا تفسيرا منطقياً...وبالنهاية...لو كنا نطرح على أنفسنا كل هذه الأسئلة في بدايات التجارب لما عشناها بحلوها ومرها. أنا شخصيا، سأتوقف عن التساؤل.
"الحياة ليست نهرا هادئا" كما يقول المثل الفرنسي، ومن اعتقد العكس فقد أدان نفسه. لكنها وبالرغم من ذلك تستحق أن تعاش وأن ينبض القلب بحبها. إنها كالحبيبة المزاجية، تأخذك في أحضانها حينا وتهجرك حينا. تضحك لك ثم تثور دون سبب، تمتحن مدى صبرك على صِبْيَانِيَتها. إنها طفلة مدللة...لا تُدِر لها ظهرك...فتعاملك بالمثل.